“خرجتُ من بيتي في الفريكة قاصداً صوفر لفضولِ أَن أَتفرَّج على أَعيان بيروت في لهوهم، وعلى الكازينو مفخرتهم الكبرى، فأَرى للمرة الأُولى دولاب الروليت. وما كان في لبنان يومئذٍ غيرُ كازينو صوفر، ولا كان في بلدات الاصطياف أَكبرُ وأَفخمُ من ذلك القصر المنيف”.
بهذه الكلمات النوستالجية عبَّر أَمين الريحاني في كتابه “قلب لبنان” عن زيارته سنة 1907 ذاك الـمَعْـلَمَ السياحيَّ الأَشهَر في زمانه، بناه أَلفرد بك سرسق سنة 1892 مكان خانٍ قديمٍ عند عين ماءٍ، فـعُرف أَوَّلاً بكازينو عين صوفر.
اليوم، بعد قرنٍ وربع القرن على بنائِه، وقرنٍ وبعض العَقد على نص الريحاني، بات ذاك الـمَعْلَمُ هيكلاً فاجعاً هربَت منه أَجمل الذكريات. غير أَنّ الفوتوغرافيا التي تُجَمّد جريانَ الزمان في صورةٍ تبقي اللحظة نابضةً ساطعة، أَعادت لنا مجدَ الكازينو وسهراتِه وشخصياتٍ شهيرةً كانت ترتادُه ومناسباتٍ وأَحداثاً كانت تزقزقُ في أَرجائه، وهو نجمٌ مشعٌّ على أَرض الجبل اللبناني.
هذا ما قام به المصوِّر الفوتوغرافي الفنان إِدِي شويري بكاميراه البارعة في التقاط أَطلال الكازينو، مُزوَّداً بوثائقَ منه متروكةٍ على الأَرض بين وهج الشمس وبَلاَّت المطر، ورافداً كلَّ ذلك بــبطاقات بريدية جمعَها من سامي طوبيا، وأَصدر الكلّ في كتابه “أَطلال صوفر” جامعاً فيه عدَداً كبيراً لـصُوَر عتيقةٍ من ذاك الزمان العتيق لكازينو صوفر الكبير وجارتِه ﭬـيلاَّ الدونا ماريا سرسق زوجة أَلفرد مؤَسِّس الكازينو، فإِذا بالحصيلة كتابٌ وثيقةٌ ذو إِخراج جميل وطباعةٍ متْقَنة ونصوصٍ توضيحيةٍ بينها نص أَمين الريحاني “القصر المنيف” ونصٌّ آخَر للكاتب الفرنسي هنري دو ريـنـيـيـه وصفَ فيه ليلةً قضاها في الكازينو على ضوءِ قمَرٍ باسمٍ غمَرَ بسكُونه مشالحَ الجبال المحيطة بصوفر في تلك الليلة الصيفية.
هكذا، بين الصور القديمة للكازينو في وهْج أَوْجِهِ صيفاً يعجُّ بالنُّزَلاء وشتاءً يستدفئُ بالثلج، وحفلاتٍ فيه جمعَت الجاز إِلى مسرح الساعة العاشرة إِلى أَفخم حفلات الأَعراس البورجوازية إِلى كبار نُزَلائه من الرُّؤَساء إِميل إِده وبشارة الخوري وكميل شمعون والعاهل الأُردني الملك حسين والزعيم المصري سعد زغلول، تُطالعنا في الكتاب صُوَرٌ حديثةٌ لـما آل إِليه الكازينو من واجهةٍ بلا أَسنان، وغُرَفٍ بلا أَبواب، وشبابيك بلا أَخشاب، وأَدراج بلا أَقدام، وأَروِقة بلا أَصداء، وبقايا أَغراض مكسَّرة مهَشَّمَة: هنا إِبريق شاي صَدِئ، هناك أَجهزة هاتف ضيَّعت أَرقامها، هنالك مقاعدُ مثقوبة وأَسِرَّةٌ منهوبة، وكلُّ ما يُمكنُ أَن يُفْرز الإِهمال من متروكات تتحوَّل أَشكالاً فاجعةً للغياب والنسيان.
صُوَرٌ وذكرياتٌ وبقايا ضحكاتٍ متروكةٍ بين الحيطان المصلوبة على الانتظار يطالعُنا بها كتاب إِدِي شويري “أَطلال صوفر” في 128 صفحة قطْعاً موسوعياً كبيراً يَقطع سعادةَ الماضي بصدمة بُؤْس الحاضر علَّ مَن يَنهَض لإِعادة الحياة إِلى هذا الكازينو الذي كان يستقبل ويودِّع كلَّما صَفَر القطار أَمامه لاهثاً من طُول تصعيد في الجبل أَو متحمِّساً لنقل روَّاد الكازينو إِلى محطة بيروت.