أزرار- الحلقة 884
تلك اللَـقِــيّــات في شِعر عاصي ومنصور
السبت 14 آذار 2015

          الإِنصاتُ الذي ران على الحاضرين في قاعة الأَخوين رحباني (الحركة الثقافية – أنطلياس) خلال إِطلاق كتابي الجديد “في رحاب الأَخوين رحباني” وأَنا أَقرأُ عليهم من شعرهما، لم يكن إِنصاتَ اكتشافٍ بل استدراك. فالقصائد ليست جديدةً عليهم: يسمعون معظمَها مغنَّاةً بصوت أَيقونتها فيروز. الجديد كان في استدراكهم إِياها عاريةً من اللحن والصوت، ندَهَـتْهم إِليها شاعريةُ النص تقنيةً وصُوَراً مباغِتَةَ الجماليا لم يَترك لهم متّسَعَ تَذَوُّقِها صوتُ فيروز “الآسِر” (التعبير لمنصور الرحباني) تصدح بها خامتُهُ “الاستثنائية الفريدة التي خضعت لأَقسى تجارب الصقل وبرعَت فيها كلَّها فبات صوتُها رمزاً ساطعاً من رموز هذا العصر” (الكلام أَيضاً لـمنصور).

          لذا كان همّي، وأَنا أَقرأُ من شعر عاصي ومنصور، أَن أُوصِلَه إِلى متلقّيه بدون الميلوديا الرحبانية التي لجمالها أَخذَت من وهج الشِعر، وبدون صوت فيروز الذي، لروعته الخارقة، حمل القصائد والميلوديا معاً إِلى حيثُ لم يبقَ في الذاكرة الجَماعية إِلاّه.

          هذا الحرص على “إِيصال” الشِعر الرحباني بِـإِلقاءٍ جَـماليّ، مفصولاً عن اللحن والغناء، نابعٌ من الإِيمان بأَنّ هذا الشِعر لا يقلُّ قيمةً شعريةً عن أَيِّ شِعرٍ مكرَّسٍ لكبار شعراء لبنان والعالم العربي. وإِذا منصور (في أَحد أَحاديثه إِليَّ كما ضـمَّها كتابي “في رحاب الأَخوين رحباني”) يقول إِنّ نصَّهما الشعريّ قبل سعيد عقل ليس كما بعدما تعرَّفا إِليه، ورغم قُـرْب سعيد عقل منهما مستشاراً، فعبقريتُهما الشِعرية لم تقطف منه سوى مفاتيح التركيب الشِعري وتقْنية الموزايـيك في الكلمات والحروف داخل الكلمات، وانطلقا إِلى موهبتهما المبدعة يكتبان أَجملَ الشِعرِ قصائدَ، وأَبلغَه لقطاتٍ مشهديةً، في إِدهاشاتٍ خارقةٍ جديدةٍ حتى على الشِعر، أَو على الأَقل في إِضافاتٍ إِلى الشِعر تزيده شاعريةً وتُعليه إِلى مقامات تفرض على مَن بعدهما أَن يَـبدأَ منها فأَعلى.

          هكذا تلمع “نَسِيتُ من يده أَن أَستردَّ يدي، طالَ السلامُ وطالت رفَّة الهدُبِ”، أَو “… وأَنا لا علْم لي، وغَدي كلَّ يوم بات يُرتَجَلُ”، أَو “بكرا إِنتَ وجايــي رح زيِّن الريح”، أَو “حَفْرِت خيالي الشمس عَ المفرق”، أَو “تعا تَ نتخبَّا من درب الأَعمار”، أَو “بَنَيْتُ أَهلاً آخَرين، كالشجَر استـنـبَـتُّهم فوقفوا أَمامي، صار لهم ظلٌّ على الأَرضِ”، ولا تنتهي إِدهاشاتُ شعرهما لَـقِـيَّـةً حَــدَّ لَــقِــيَّــة.

          أَما ووزارة التربية قَــرّرَت إِدراج شِعر الأَخوين رحباني في المناهج التربوية، فهنيئاً لتلامذتنا وطلابنا تذَوُّقُ شعرهما واكتشافُ ما يصقل ذوقَهم الجمالي وحسَّهم الوطني والإِنساني، وهذه مهمّة القصيدة المبدعة منحوتةً بعبقرية الشِعر.