لم أَشعُر مرةً أَنَّ للتمثال روحاً كما يوم فُجِعْتُ بتماثيل متحف الموصل تتهاوى صريعةً تحت مطرقة الذي انهال عليها، بِاسْم “الدولة الإِسلامية”، يُعدمها قِطَعاً مُشلَّعة متّهماً إِياها بـ”الانتماء إِلى أَقوام كانوا يَعبدونها ويُشْركون بها الله”. وضاعفَ التهمة بأَنّ “النبي محمد، عندما فتح مكة، أَزال الأَصنام وطمَسها بـيده الشريفة”.
لا داعٍ للتبَسُّط في ضلالٍ أَوضحَ من أَنّ هذا العمل باسم الإِسلام لا يرضاه الإِسلام، وأَنَّ تلك التماثيل الأَشورية الأَكادية الهِـلِّنِسْتية ثروةٌ حضاريةٌ فريدةٌ عالـمياً في نينوى العريقة، ولا علاقة لها بتلك التي أَمر النبي العربي بتحطيمها منعاً للإِشراك.
ولا داعٍ لاستعادة الأَذى القاتل في جُرم مَن بِاسْم الإِسلام يدّعي الانتصار لله ويرتجل موقفه دفاعاً عن الله فيُشَوِّه صورة الإِسلام في الغرب وبعض الشرق، وهو ليس من تعاليم الإِسلام ولا في مَلمَح.
ولا داعٍ للدهشة من رتابة ما أَبداهُ العالم استنكاراً واستهجاناً وأَسفاً وأَسىً وإِدانةً من منابر مجلس الأَمن ومنظمة الأُونسكو ومدراء الـمتاحف العالمية الكبرى، وكان الأَجدرُ تهريبَ تلك الآثار أَو الحَجْر عليها بإِحكام (كما تـمّ في متحف بيروت مع مطلع حرب 1975).
أَعود إِلى البداية: روحُ التمثال. مَن حمَل المطرقة وانهالَ بالحقد على التماثيل يَغتالُها، في وعيه أَنه يحطِّمها ليُلغيها، لكنه في لاوعيه يَقتُل روحها قبل تناثُـر حجارتها فِلَذاً شهيدةً على أَرض المتحف. تماماً كرفيقه الذي حمل الساطور وذبحَ رهينة، في وعيه أَنه يَصرع الجسد لكنّه في لاوعيه يُعدمُ روحَه كي لا تتناسل أَرواحاً في أَجساد أُخرى.
هنا خطورةُ الظاهرة: قَـتْلُ الروح. ولا فرقَ بعدها أَن تكون روحَ تمثال أَو روحَ بَشَريٍّ أَو روحَ شعب كامل بتهجيره أَو مُحاصرته أَو قَـمْعه. وهذه خصيصةٌ يعرفها الدكتاتوريون والتوتاليتاريون والأُصوليون (التكفيريون فصيلٌ منهم): زرْعُ الهلع في الناس يَــقتُل روحَهم ولو لم يقتل أَجسادَهم. يكفي ترويعُهم كي ينطفئوا رعباً، أَو يرحلوا ذُعراً، أَو ينزحوا إِلى غُربة تعيد إِليهم بعض الروح ولو غرقى في مرارة الرحيل.
أَقْدَرُ الروح مَن تَبْقى في ذرّية الشهيد أَو شعبه أَو مبادئه، فلا تَسقُط ولو سقَط جسدُه.
لذا قلتُ إِنني فُجِعتُ بتَهاوي تماثيل متحف الموصل، فالروحُ التي هَوَت مع الحجَر المتشظَّي غارت بين الشظايا لأَن شعبَها الهِـلِّنِسْتي القديم الذي رفعَها لن يَعود من خلف التاريخ ليرفعَ روحَها من جديد.
تلك المطرقةُ الحاقدة أَجرمَت مـرَّتــين وهي تنهال على التمثال: جسَداً يتلاشى في المكان معانقاً روحَه الـمتلاشية في الزمان.