_____________________
“في رحاب الأخوين رحباني” – هديَّة هنري زغيب
__________________________________________________أنطوان سيف *
العبورُ إلى عالم الأخوين رحباني يؤول إلى رحابٍ “وسْع المدى” لا تخوم لها. عانى هنري زغيب عنوان كتابه. جالَ من أجله في سراديب المعاجم والذكريات والإبداعات الشعرية المعبِّرة. حامَ وحارَ واستوضح واستشار، وعاد بعد التطواف إلى عنوانه الأوّل: “في رحاب الأخوين رحباني”. وأزعمُ أنّه ما ساح إلاّ ليرسّخ “الرحاب” على كل ما عداها، بلورتها رحلتُه البحثية أكثر ممّا كان لها من حظوةٍ في البدء، لقرابة لغويةٍ موسيقية خفية بين عبارتَي “الرحاب” و”الرحابنة”، يشفعها مدى الرحاب الذي يربأ بالحدود والمواصفات المسبقة بألف حجة حضور.
إلاّ أنه، وهو اللصيق بهذا العالم الرحباني والمتفرِّد بالكثير من مخبوءاته التي مرادفاتُها لا كينونتُها العارية تدفع إلى الظهور في ثنايا القصائد والأشخاص المسرحية والحوارات والمصطلحات التي، كعلماء الجبر، يعرف كيف وأين يضع على كل همسةٍ قيمتَها، لم يتخلّص، مع ذلك، من قلقه في أن يكون لِوُلوجه وقعُ اقتحام يصاحب في ثناياه الكثيرَ من التعامي عمَّا لا يجوز طمسه، وما لا يمكن إلاّ أن ينزلق خارج مستطاعه: ظلَّ وعيُه مسنوناً في التبصُّر بفكرة “الرحاب” اللامحدودة غير القابلة المصادرة. عرفَ حجم المساحات التي لا يعرفُها من عوالم لعاصي ومنصور تجسدت وتماهت مرةً واحدة وإلى الأبد في صوت فيروز كينونةً واحدةً دخلت التاريخ بثلاثـــيَّــتها الأقنومية، أي بوجودَها المبتَدع، وبات تخيُّلُ تجزئتِها اعتداءً على جوهرها.
في هذه المفارقة التي لم تبارح وجدانَ هنري زغيب، وطلباً للتمامية والنزاهة المنهجية الاكاديمية، انسحب إلى إعلان منطق قياس “السلب”، قياس “ليس” و”لا”، وقبله استخدمَه الفلاسفةُ وأهلُ الميتافيزيق لمقاربة المطلق الذي ليس هو “كذا” ولا “كذا”، ولا سبيلَ إلى ذكر ما ينفي لاستغلاقِ الكلامِ على قول ما هو، فكانت فاتحةُ كتابه على النحو التالي: “هذا ليس كتاباً عن سيرة الأخوين رحباني بالمعنى البيوغرافي التقليدي، وليس نشراً شعرَهما كاملاً وتراثَهما، ولا تحليلاً أعمالَهما، ولا دراسةً فنهما الكتابي أو اللحني، ولا إسقاطاً دقيقاً منعطفات سيرتهما على نتاجهما الفنّي… وليس فيه منهج توثيقي يجعله أكاديمياً”. وهذا المنطق كان في القديم يشي، من غير أن يُعلن، بمحدودية اللغة وأرضيَّتِها (أو حتى خطيئتِها الأصلية، كما وصفَها برغسون، في معاشرة الأشياء المحسوسة قبل أن تدَّعي وتزعم معاقرةَ ما لا مادة فيه!). إلاّ أن الشعراء، وهنري زغيب منهم، كما موضوعه، كانوا أعرفَ بهذه الحقيقة فجرَّدوا الأشياءَ باللغة وألغَوا معجميةَ حدودها، فكيف وأنتَ في حضرةٍ كبيرةٍ ضاعفت هذا “البارادوكس” باللحن والأغنية والمسرح؟ لذا يعترف المؤلفُ بمكانٍ “رحبٍ” لكثيرين غيره من المؤلفين في فنّ الرحابنة (وهم ليسوا تحت عنوان كتابه) بل سيظهرون “ذات يوم نأمل ألاّ يطول” كما يقول ويسارع إلى الإكمال: “ومتى سيأتي هذا اليوم يكون هذا الكتاب خميرةً”.
ولكن ماذا يكون هذا الكتاب فعلاً عن الأخوين رحباني، من رحبانيٍّ بامتياز، لا ما لا يكون فحسب؟ هو “خميرةٌ وثقى” تُضاف إلى الدراسات الرحبانية، و”خميرةٌ خيِّرة” لمن سيأتي يوماً. وهو كتابٌ “دعوةٌ إلى رحاب العالم الرحباني، مفتاحٌ للدخول إليه، ضوءٌ على الطريق إليه…”.
لهذا العمل الجميل والدقيق عنوانان: سيرةُ الأخوين رحباني كما رواها منصور لهنري زغيب على حلقات (وهنا يكون الكاتبُ في موقعٍ فريد من هذا الموضوع غيرِ قابل للاستبدال)، وعرضُ قصائد وحوارات للأخوَين بحرفــيّــتها تصلح وثيقةً تامة، وهذا عملٌ رائدٌ بموثوقيته للبحوث والدراسات.
وعانى المؤلف خصوصاً لا من الشعر بل من الموسيقى وهو ليس من خبرائها: قدّمَ تقطيعاً صعباً ورائداً لقصيدة الأغنية. وهذا أيضًا عملٌ بارعٌ وغيرُ مسبوق وقابلٌ الجدل. إلاّ أنّ في الموسيقى ميزاناً آخر لا يُحسِن الكلامَ فيه إلاّ أهلُها الكبار، ومَن أمتهنَ منهم النقد.
في “رحاب الأخوين”، وفي هذا الكتاب بالذات، كنتُ أحبُّ مطالعةَ بعضٍ من مواقفهما، أكتفي منها باثنين:
1) برقية محمَّد عبد الوهاب من القاهرة إلى أنطلياس للتعزية بعاصي. قرأْتُها عياناً وفيها: “جبال لبنان الشامخة تنحني إجلالاً وحِداداً وأسفاً على الفنان عاصي الرحباني. كان أول من فتح أبواب المدنيَّة والنور على الموسيقى والغناء العربيَّين”. ولم أَرَ أيَّ أثر لهذه البرقية في الإعلام، إلاّ ما ذكرتُه عنها وعن مضمونها في احتفال الجامعة الأميركية في بيروت بمناسبة أربعين عاصي وبمشاركة منصور عام 1986!
2) غداةَ وفاة أم كلثوم صرّح رياض السنباطي: ” منذ سيّد درويش لم تعرف الموسيقى العربية أيَّ تجديد في طابعها الشرقي، باستثناء ما قام به عاصي ومنصور الرحباني: جديدٌ وجميل لم يَفقدْ صلته بتراثه المشرقي”.
هذا بعضٌ من “الخميرة” السابقة، “الخميرة” ذاتها التي دعتنا للكشف عنه، ومؤشر ربَّما لما سيأتي يوماً.
“في رحاب الأخوين رحباني” لـهنري زغيب سِفرٌ رحبانـيٌّ بامتيازٍ، فيه من أثر هذه “الخميرة” ما يجعله، بفرادته، غيرَ قابل للتجاوز وللنسيان.
___________________________________________________
*) كلمته في افتتاح الندوة التي أَدارها باسم الحركة الثقافية – أنطلياس (وهو أمينها العام هذه السنة)، حول كتاب الشاعر هنري زغيب “في رحاب الأخوين رحباني”، وشارك فيها الوزير السابق جورج سكاف والصحافي رفيق خوري، وقرأَ خلالها هنري زغيب قصائد من الشعر الرحباني.
________________________
معهما… من أجمل لحظات حياتي
___________________________________________________________رفيق خوري*
هذا الكتاب كان يمكن أن يكون عنوانه: “هكذا تكلَّم منصور”، لأن الأَساس فيه هو السرد، سَرْدُ منصور قصةً طويلة عن أخيه عاصي وعنه، لو لم أعش معهما وأعرفهما لاعتقدْتُ أنها قصة خيالية أعجوبية فوق الطبيعة. لكنها قصة حقيقية واقعية، فيها طبعاً، ككل سرد، فجواتٌ تخونها الذاكرة عن بعض التفاصيل. لاحظتُ في الكتاب أن منصور ركّز على مرحلة البدايات (الطفولة، الشباب، المطالع) وهي المرحلة الصعبة التي عانيا فيها على الطريق حتى وصلا إلى القمة، وعند مرحلة القمة لم يعد منصور يركز على التفاصيل معتبراً أنها باتت تلقائية مع أنْ ليس فيها أيُّ شيءٍ من التلقائية، بل فيها الجهد المتواصل الصعب المتطلّب.
وأَحببتُ في الكتاب الفصل الخاص الذي أضافه هنري زغيب وفاءً لـمنصور الذي روى له قصة الأخوين منذ الطفولة حتى غياب عاصي في 21 حزيران 1986.
وفي الكتاب جواب منصور عن سؤال لا أعرف أحداً إلا طرحه: مَن منهما الشاعر ومَن الملحن؟ من يكتب لاتلفصحى ومن يكتب بالعامية؟ الجواب أن كلاّ منهما يكتب بالفصحى وبالعامية، وكلاً منهما يلحن ويوزع، وليس من عمل وضعاه معاً بالمعنى الكامل. كان أحدهما يكتبه ويقرأه الآخر فيضيف إليه الآخر أو يعدّل فيه أو يبدي رأيه. لكنني أرى أن الأخوين رحباني أهم من عاصي وحده و منصور وحده، لأن الأمر ليس جمع اثنين في عمل واحد بل هو إضافة عبقرية اثنين التقيا معاً.
جاءا شابَّين لم يكن في نشأتهما ولا في بيئتهما ما يؤهّلهما إلى بلوغ تلك التجربة الهائلة التي بلغوها. فهما كسرا الظروف والبيئة والواقع حولهما وانطلقا إلى القمة بدون أن يتخلّيا عن شخصيتيهما وعن التواضع والاستفسار وبدون أن يصيبهما التكبر.
كان لعاصي دفتر أزرق فيه أفكار لنحو 10 أو 15 مسرحية، بينها ما لم ينفِّذاه أَبداً (“الكركون 101″، “قصَب من نهر سير”، …) وكلما نَوَيا كتابة مسرحية جديدة يتساءلان عما يحب الناس في هذا الموسم: السياسة؟ الفن؟ الحب؟ ويتفاهمان على الفكرة فيروح منصور يكتبها وعاصي ينبّهه أن يطرد الشعر من المسرح. كان منصور يحب الشعر أكثر، وعاصي يريد المسرح مركزاً أكثر دون شطحات الخيال. وعند كتابة كل عمل يستدعياننا ليقرآ لنا، فكنا لهما حقل تجارب. أحياناً يأخذان بآرائنا وأحياناً يتمسكان بفكرتهما لا يغيّران فيها كلمة واحدة ويكونان متفقين سلفاً على جواب واحد. من ذلك مثلاً رأيي أن عبارة “الحريه كذب، العداله كرتون” ليست في مكانها، لكن منصور لم يرضَ بحذفها وتمسَّكَ بها وأبقاها.
استغرق الأخوان وقتاً طويلاً حتى نزلا من الضيعة وبدآ بـالمسرح المديني في “هالة والملك”. وتعلّمت في هذا الكتاب كثيراً من منصور، كالكثير من الشخصيات التي كتبا عنها وهي حقيقية من حياتهما الشخصية وفي محيطهما. من هنا أن شعرهما، كشخصياتهما، هو شعر نابض بالحياة والجمال، على عكس ما نراه اليوم من شعر لا علاقة له بالحياة بل هو تهمويمات وشطحات سفسطائية خارج الحياة والزمان والمكان.
في أغاني الأخوين ما نراه اليوم عادياً أن يقال لأنهما ثقَّفانا عليه وعلّمانا نمطاً جمالياً فيه الفن العالي والجمال الأخاذ، لكنه لم يكن طبيعياً أبداً في زمانهما حين كانت الأغنية المصرية هي المسيطرة، فجاءا بالتحوُّل الكبير وقطعا تماماً مع المرحلة التي كانت سائدة وارتفعا بالأغنية اللبنانية خارج البكاء والنواح والنمط السائد في أغاني ذلك الزمان.
غير أن مدرستهما الرائعة التي أنتجت أغنيات وسكتشات وكل أنواع الموسيقى لم يأت بعدهما من زاد عليها أو طوّر فيها، فما ظهر بعدهما هو إما تقليد لهما أو عودة إلى الوراء مع أغنيات ينقصها العناصر الثلاثة التي تشكّل الأغنية: الكلام واللحن والصوت. كنت أتمنى أن تقود تجربتُهما إلى تطور أكبر. وخطأٌ من يقول إنهما رسما لنا وطناً خيالياً لأن الحرب أثبتت لنا أن وطنهما لم يكن خيالياً بل هو واقعاً وطنُ الحلم الذي نتوق كلنا أن نعيش فيه.
كتاب هنري زغيب استمتعت بقراءته لأنه ذكرني بكثير ما كنت أسمعه من تجربتي الطويلة مع عاصي ومنصور، وهي امتلأت بصداقةٍ فيها من أجمل لحظات حياتي.
_____________________________________________________
*) كلمته في الندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب “في رحاب الأخوين رحباني”، بدعوة من الحركة الثقافية – أنطلياس، أدارها الدكتور أنطوان سيف (الأمين العام لــ”الحركة”) وشارك فيها كذلك الوزير السابق جورج سكاف، وقرأَ خلالها هنري زغيب قصائد من الشعر الرحباني.
__________________________
طريق النحل الى رحاب الأخوين رحباني
__________________________________________________جورج سكاف *
في إطلالته الأُولى على العالم الرحباني اختار هنري زغيب طريق النحل.
لأنه عنوان قصيدة رحبانية :“طريق النحل الطاير من فوق القصور، أعلى من القصور، أعلى من قبب العالي عميكتب سطور…”
ولأنه عنوان المسيرة الرحبانية ” بدأْب النحل على الجودة والتأنّي والدِقّة والصبر والمُثابرة في صُنع قرص عسل”.
طريقة اتَّبعها الشاعر هنري زغيب كذلك بدأب النحل على الجودة والمثابرة في أحاديث شهرزادية مع منصور الرحباني ليقطف من كلماته جنى عمل الأخوَين في بناء وطن الأَحلام، بمَسرحة حكايا القرى واستنهاض أمجاد التاريخ، قصوراً من الفن تُعطي الوطن هوية حقيقية مجيدة.
سيرة الأخوين رحباني مسيرة نهضة فنية في لبنان والشرق رواها منصور الرحباني بتفاصيل ولا أدقّ، يوميات ضَنى وشقاوة وكَدّ وجُهد عاشها الصغيران عاصي ومنصور حتى بلوغهما خشبة مسرحٍ مُرتجَل في مقهى فوار انطلياس، يقدمان عليه ألاعيب وتمثيليات شعبية يكتبها عاصي في صحيفته “الحرشاية” ويدوزنها منصور في صحيفته “الأغاني” وتنتهي بهما غالباً هاربين في بساتين انطلياس. ومع ذلك تابعا طريقَ النحل في الـمُثابرة ليبلغا هياكلَ إلهة الشمس بمسرحيات أيقظت أعمدة بعلبك على غُزاة جُدُد يحيون عظمَتها بمفاخر شعب راقٍ يزيدها فخراً.
في إطلالته اليوم – بمزيد من خوابي ذكريات عتقت فطابت ومزيد من الصور تُحيي الذاكرة وبإخراج طباعي أغنى وأرحب – يجتاز هنري زغيب “طريق النحل” إلى رحاب الأخوين رحباني وقد صار منها في الصميم، يطلُّ بها من هنا، من مسرح الأخوين رحباني، عند فوار الفن الرحباني في أنطلياس التي صارت عاصمة لحركة ثقافية ومنطلقاً للإبداع سنةً بعد سنة، فيوجّه تحيةً خاصة الى منصور بعد غيابه، مُضافة إلى تحيات إِكبار لفن رحباني يستمر متجدداً بألق عاصي ومهابة منصور، ثنائياً ثلاثياً بسحر صوت فيروز ويتسع رباعياً بغنى تنوُّع الياس، وأكثر فاكثر بتعدُّدِ العواسل الرحبانية، وفي كل قفير منها مليكُ نحلٍ يُعطي عسلاً ملكياً.
طريق النحل أوصلت هنري زغيب إلى قطف قرص العسل الرحباني، وتابعها الى عواسل شتى بالدأب والمثابرة وبحنكة وجدية. استكشف عمق روحانية جبران من شواهد الناس والأمكنة فاصطفاها قِيَماً جبرانية تُحاكي روحانية مصطفى نبي جبران. ومن مُجالسته سعيد عقل ساعات طويلة في أحاديث صحافية ومقابلات تلفزيونية استنطقه سرَّ الكلمة الرشيقة فبانَت ذات قوام واستعاد معه تقصيب كلّ قصيدة عمارةً منحوتةً في الصخر كأعمدة بعلبك. في كل بيت لعبة مُبتكرة وجمالية تحكي قصة حُبّ أو نبضة مجد عظيم جمعها في كتاب “سعيد عقل إن حكى” فجاء في بهاء “لبنان إن حكى” وأكثر شموخاً: إن لم يكن أعلى قمة بين الجبال فأعلى قمة في الحضارة وفي الألوهة إذ مسح قانا القرية اللبنانية الوادعة بهالة قُدسية يوم دخلها المسيح مع أمه إنساناً عادياً لحضور عرس وخرج منها إلهاً بأَول أُعجوبة حوّلت المياه إلى خمر فآمن به تلامذته.
طريق النحل ميزت منصور الروائي الشيّق في سرد مسيرة الأَخوين رحباني، ولربما أيقظت فيه ميزةَ النحل أيضاً بأن يطير أعلى فأعلى من القصور والقبب العالية ليستكشف في أعماقه زهراً أنضر وعطراً أغنى. تابع طريق الأخوين رحباني بهمةٍ أكبر وعزيمة أشدّ، فقطع الجبال الدهرية والقرى الـمُعلّقة والوديان العميقة ليصل إلى “القصور المائية”، وعاد منها يروي ماضي الذكريات العفوية بتَبصُّرٍ وتعمُّق في عبارات توراتية رؤيوية تُذَكّر بلحَظاتٍ سعيدة من الماضي وقد زاده الكِبَرُ صِدقاً مع نفسه وقُدرةً على العيش في عالم الآخرين .
أعاد منصور كتابةَ ومَسرَحة سيرة الأخوين رحباني شعراً كما مَسرحَ شِعر أبي الطيب المتنبي من مَدّاحٍ في بلاط سيف الدولة إلى ملك على دولة الشعر، ومسرَحَ فِكرَ الأخوين رحباني بفلسفةٍ أعمق مما مسرح “آخر أيام سقراط”. طرحَ تساؤلات عاصي القلقة وهواجسَه حيال الما بعد: “بدنا نعرف معنى الأشيا سرّ الاشيا، بدنا نعرف، نحن جينا تَ نعرف”. وبلغة المزامير رأى هذا الجبرانُ الآخر أن “الشاعرَ نبيّ يتلمَّسُ آلام شعبه، ينشد افتداءه وخلاصه. وكرسولٍ يعيشُ الأزمنةَ في الحاضر وآلام الحاضر بما تخطاها من قبل ومن بعد“.
ذكريات “طريق النحل” طبعت حياة منصور مع عاصي فتجسَّدت في أعمالهما، ويعودُ إليها منصور عودة المصطفى إلى النبي من سَفرة بحرية، بفلسفةٍ روحانية يرويها في “القصور المائية”: “كِلما شِفت راعي سايق عنزاتو، أو صَبي حامل عَ ضهرو سَلّ عنب، أو خادم بمطعم، كلما مَرَقت عَ شرطي عَميُحرس الطرقات تحت شمس الصيف الحارقة، بتذكر حالي وبترجعلي كل المَراحِل اللي مرَقْتْ فيها حتى صِرت هالإنسان اللي إسمو منصور الرحباني”. ويتابع: “كلما فكّرت بهاك البِنت اللي كان إسما نهاد حداد وصارت فيروز العظيمة، أو تذكرت عاصي ومنصور اللي صارو الأخوين رحباني وغَيّرو موسيقى الشرق، وهنّي ولاد الفقر الطالعين من البيوت الواطية، من الفَرشات الممَزَّقة وعَشا الخِبز الناشف، بعرف قدّيش صارَعْنا تَ وصلنا لفوق، وقدّيش عنّا حقيقَه ت صارلنا حوالى خمسين سنة وبعدنا فوق”.
أين هذا الفوق؟ إنه في وطنٍ صنعه الفنُّ الرحباني كما يرويه “طريق النحل” من بطولات “فخر الدين”، وانتفاضة “جبال الصوان” يفتديها مقاومون استشهدوا على بوابة الوطن ليُنقذوه من فاتك المتسلط، و”ناطورة المفاتيح” لشعب هاجر بأكمله تاركاً الحاكم يضيقُ بوحدته بين بيوت مهجورة فيستغيثه العودة راضخاً لمشيئته، وهتافات أغانٍ شعبية بصوت فيروز على أدراج بعلبك “حتى صار لنا أغنيات شعبية نعتقد أننا قادرون على غنائها والتغني بها”. وعلى جسر القمر جَمعَ بين حبيبين من ضيعتين متخاصمتين فصارت “كل ضيعَه بينها وبين الدني جسر القمر، وطالما فيها قلب بيشِدّ قلب، مهما تعرَّض للخطر ما بينهدم جسر القمر”.
كبُر الأَخَوان في واحد ونأَت أدراج بعلبك فتخطّى منصور وحيداً طريق النحل ليُصبحَ “الغريب الآخر” ساكنَ “القصور البحرية“، “المسافر وحده ملكاً“. أطلَّ على الألف الثالث ناقماً على بُغضٍ لا يزال يتحكم بالناس، ومن تلّة أنطلياس رأى بيروت تُقصف، تمطِرُها الأساطيلُ بالقنابل، “تقصف عمق الليل الرّحب، وجميعُ قنابلها تسقطُ في قلبي”. ورأى “شمسَ المَشرق وحطامَ النبوءات تقع في آن حين يتعاظم فيها المال وتعلو بالإسمنت مُشرَّعةً على فوضى الحرية يدخل إليها ويخرج منها كل من هَبَّ ودب”. فاختار أن يَصلبَ نفسَه عن بيروت: “سأُصلبُ في الحمراء ليكونَ للبنان رجاءٌ وحياةٌ للشهداء“.
وطن منصور كان وطن أحلامِ الأخوين رحباني من بطولات وأهازيج فصار وطناً بحاجةٍ أن يُفتدى لأنه الوطن ” و”الوطن يصير بانتسابك إليه، بدونك هو أرض، لا يكون حقيقةً إلاّ حين تنعكسُ أنتَ فيه وينعكسُ فيك: أنتَ شمسُه وهو قمرُك“. لأجله ثار منصور على “ملوك الطوائف” يقتتلون باسم طوائفهم فيقتلون الوطن. ومن المياه، من أعماق الوجود حيث تنبثق الأضدادُ بعضها من بعض، كانبثاق النور من الديجور، أعاد “الفينيق” في انبعاثٍ لعهدٍ رحباني جديد موقوفٍ للحرية “للمدن الممنوحة للبحر، للثلج الأول، للأقمار الأولى والنِعَم الشمسية”.
بقي فيه من “طريق النحل” سعادة قطفِ الجنى من خلف ستارة المسرح، يَفرحُ به من فرح الناس، ويعود الى بيته يجلس في زاوية غرفته عند شباك الضوء، يكتب ويكتب: “تَهِبُني كلَّ لحظةٍ حُلماً، لا ينتهي واحدٌ حتى يبدأ آخر، وهكذا أجتاز أيامي… من دون تعاسة“.
ظل منصور حتى آخر أيامه في حالة عطاء، يُعطي بفرحٍ وسَخاء، ويترك للزمن الطويل أن يُظهر كم هو خيّر ومُبدع. يحتفظ بسرّ ألقه في المنظومة الرحبانية العظيمة، في عبقريّة حِسّ بشري إنساني، وعبقرية حب وطني، وعبقرية إبداع، يُثير اهتمامَنا بدهشةٍ عارمة وهو أكثر اهتماماً مِنّا بنا. إنه من عالمنا حيث ندوس في الوحل لكنه مختلف في أنه “يتطلع الى فوق، إلى النجوم فوق رؤوسنا”، يدخل إلى أعماقنا حيث الحُبّ في قلوبنا. ويعرف أن يَفيدَ من حِكمةِ الحُكماء أكثرَ من حُكمِ الحُكّام، من فَهمِ الماضي يبني المستقبل، ويظل في كل لحظةٍ يحلمُ حلماً لا ينتهي.
سافر وحده ملكاً كمليك النحل: “لا سلطان لوعي أو عقل، بل لما في قلب الحُبّ. عندما يكون الحُبُّ لا يبقى للزمن حساب“. ويبقى في لبنان الحلم لأن الحلم كان عنده واقعاً آخر عاشه وحده، وصل فيه الى غاية قد لا تكون حِسّيةً بمعنى الواقع لكنها حقيقة بمعنى الصيرورة. ظل يعمل من أجل حياة تستحق أن تُحيا، من أجل أن يبقى للربيع شهقتُه، وللسماء زرقتُها، وللأزاهير عبيرُها. من أجل وطن دائم الشباب والفرح”.
وحده الزمان الطويل، بنظر منصور، يُظهر حجمَ وقيمة الانسان الخيرّ، يجعله أسطورة: “كل أَلف سنة يجيءُ مرّة، يبحثُ في أقواله القديمة، يبحثُ عن وجوهِه في الماء، ثم يعود في ألف سنة جديدة، لأجل ان تكتمل القصيدة”.
هنيئاً للصديق الشاعر هنري زغيب، رفيق الألق الرحباني، في كل إطلالةٍ يحقّق جديداً أجمل وأغنى، ويُظهر كم مرّة اعلولى في طريق النحل فوق القبب العالية ليبلغ الرحاب الرحبانية، وكم مرّة أبحر في أحلام الرحباني إلى مِحراب ملكوته، ليجدَ أنه، في هناءة يقظة مُشرقة، أصدقُ وأسعدُ منه في بهاء أحلامه.
___________________________________________________________
*) كلمته في الندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب “في رحاب الأخوين رحباني”، بدعوة من الحركة الثقافية – أنطلياس، أدارها الدكتور أنطوان سيف (الأمين العام لــ”الحركة”) وشارك فيها كذلك الصحافي رفيق خوري، وقرأَ خلالها هنري زغيب قصائد من الشعر الرحباني.
________________________
________________________
بعد التوقيع
http://newspaper.annahar.com/article/221715-=221715
http://newspaper.annahar.com/article/220256-
إعلان عن التوقيع
http://www.annahar.com/article/218678-