حين دعوتُ كوكبةً من سفرائنا المنتهية خدمتهم لإِعطاء نبذة عن تجربتهم الدﭘــلوماسية، في حلقات لدى الجامعة الأَميركية للعلوم والتكنولوجيا، كنتُ أَحدُس أَن يكون الحصادُ ثرياً، إِنما فاق توقُّـعي بما أَتَوه من تفاصيلَ وأَحداثٍ ووقائعَ عن جوالينا الناشطة في العالم، وكيف يُمكن السفير أَن يكونَ في سفارته صورة وطنه الـمُـثلى رغم ما قد يمر به وطنُه من صعوبات.
أَقول “الـمُثلى” وأُفكِّر بـمسؤُولية السفير في إِبقاء صورة وطنه ذاتَ سُطوع، سواء في صفوف الجالية فيَحميها من تَـشَـتُّت، أَو لدى المراجع الرسمية التي أَقـتبَلَت أَوراق اعتماده وقبِلَتْه يمثِّل بلاده لديها.
غِنى المعلومات، كما لـمَستُ من السفراء الـمُحاضرين، يعطي صورةً رسميةً عن لبنان الدولة، لها ما لسواها من شؤون سياسية واقتصادية، وإِنما صورةً بهيةً عن وطن مغاير في العطاء والإِبداع. وهذه ميزة لبنان في العالم: ضئيلٌ في الجغرافيا والديموغرافيا، فعلى مسؤُوليه، خصُوصاً في الخارج، أَن يُـبرزوا تَفَرُّد أَبنائه المنتشرين، في حيثما هم، بتـنشيط المجتمع الذي استقبلَهم، وبـإِغناء قطاعات معرفية هناك بما لهم من عطاءات وإِسهامات.
هذا الأَمر يقود إِلى حَـثّ المسؤُولين، حين يغادرون الخدمة، أَن يؤَرّخوا سنوات خدمتهم في نصوص هي بين المذكرات الشخصية والتدوينات الوطنية تُغْني ذاكرة لبنان وثائقَ وأَرقاماً وتواريخ. وما نشرَه مسؤُولون في العالم بعد خروجهم من الحكم، حُكّاماً ورؤَساء حكومات ووزراء وسفراء وسياسيين، أَثرى تاريخ بلدانهم وبات مرجعاً للتأْريخ والتاريخ. وهذا ما ينقص كثيرين من حُكّامنا، بعد خروجهم من الحُكْم، اكـتـفَـوا بنشر خُطَبهم وكلماتهم في المناسبات وصوَرهم ورحلاتهم واستقبالاتهم وزياراتهم، من دون أَيِّ إِسهامٍ منهم يُضيف للمؤَرخ لاحقاً لَـمحةً عن البلاد على عهدهم، أَو تفاصيلَ جوهريةً لم يتداولها في حينها الإِعلام.
نَشْرُ تجربة السفير في بلدان خدمته – غير أَكداس تقاريره إِلى وزارة الخارجية – إِثراءٌ لصورة بلاده أَكثر مما له. فهو ليس مُـمثِّلاً بلادَهُ دﭘـلوماسياً وحسْب بل ديناميةَ شعبه في تلك البلدان تجاه مواطنيها ومسؤُوليها. وإِذا في طبيعة الدﭘـلوماسية السرّيةُ والكتمان، فبعدَ مرور بعض الزمن تنفتحُ فسحةٌ كاملةٌ لنشر ما لا يؤْذي بلاده أَو التي خدَم فيها، وبذلك يُسدي خدمةً مزدوجة للبلدَين معاً.
أَعرفُ أَنْ ليست مهمةُ المسؤُول، في بلاده أَو في دنيا انتشارها، خَوضَ التأْريخ وتحليلَه ونتائجَه لكنَّه، في نشْر تجربته، يقدِّم مادةً أَوّلية للمؤَرّخين يعودون إِليها في مختبر تحليلاتهم فيكون نفعٌ منها للبلاد والسوى معاً.
وهكذا يُــبنى تتابُعاً تاريخُ الأَوطان.