في النصف الآخَر من القرن التاسع عشر كانت بيروت، بين سائر المدن في دول المنطقة، أَوّل مركزٍ في إِصدار الصوَر الشمسية، اتّخذ فيها المصوِّرون الأَجانب ستوديُــوَاتهم وأَرسلوا إِلى بلدانهم الغربــيَّة ما يُصْدرُون من صُوَر.
لم تشأْ دار “كُتُب” إِصدارَ الصوَر صامتةً بدون تعليق، فعمَدَت إِلى نشْر كتاب “بـيـروت… ضوءٌ على ورَق” لــبَدر الحاج، أَنيقَ الطباعة في 170 صفحة قطعاً مَوسُوعياً كبيراً، ضَمّ مجموعةً نادرةً وجديدةً من الصوَر بين 1850 و1915، ونبذةً عن مصوِّريها وخلفياتِ ظاهرة التصوير فترتئذٍ، ولَـمحةً عن رؤْيةٍ استشراقية رآها إِلى لبنان أُولئك المصوِّرون الأَجانب، وتحليلَ بُنْية الصور وظروفها وشرح الإِطار والاقتصادي لتصويرها.
من أَهمية هذا الكتاب توثيقُه تطوُّراً عمرانياً شهدَتْـه بيروت مع السنوات، ما يتّضح في القسم الأَول بمعلوماتٍ عن بيروت مطلع القرن التاسع عشر: بلدة صغيرة ذات بُـيوت من طين وحجارة رملية وشوارع ضيّـقة ومرفإٍ ضئيلٍ لا تقصُده سفنٌ أَجنبية، تَـحوَّلَت مع الحرب العالمية الأُولى مدينةً كبرى ذاتَ مرفإٍ مهمٍّ اقتصادياً وتجارياً (خصوصاً بعد رواج صناعة الحرير) استقطبَت قنصلياتٍ أُوروﭘـّـيةً وحركةَ تجارةٍ مزدهرةً جعلَت عاصمتَـنا مركزاً تجارياً ومالياً وثقافياً، وجذبَ ازدهارُها المصوِّرين الأَجانب فأَنتجوا حجماً كبيراً من الصوَر. ووثَّــق المؤَلّف هذا القسم بصحفٍ بيروتيةٍ من تلك الحقبة، وبتقاريرَ فرنسيةٍ وإِيطالية.
ولأَن مرفأَ بيروت بات بَـوَّابَـتَها إِلى العالم، والأَكثر نشاطاً وازدهاراً من المرافئ الأُخرى، حفل القسم الأَوّل من الكتاب بمجموعةٍ كبيرة من الصوَر للمرفإِ ومعه وحوله صور في أحياء مختلفة من بيروت شاطئاً وداخلاً. وبدخول القطار وتَوسُّع الاتصالات، دخلَت شرايـينَ بيروت حركةٌ متجدِّدة رَفَدَها التنظيمُ الـمُدُني العثماني بين 1864 و1877 ما دفع بلدية بيروت إِلى تحسين المدينة في جميع مرافقها.
وتوسَّع القسم الثاني في تحليل مضمون الصور وبُـنْـيَـتِـها ومصوّريها وستوديُـوَاتهم وإِعلاناتهم في الصحف وبراعاتِهم في التقاط لحظاتٍ حاسمةٍ لوجوهٍ ومناظرَ وأَشخاصٍ ونساءٍ شبهِ عاريات، ما يؤَكِّد إِشارةَ المؤَلِّف إِلى أَن معظمَ تلك الصوَر كان مُـحَفِّزاً وموجَّـهاً إِلى السوق الأُوروﭘـية ليُغري مقتَـنيها بزيارة بيروت.
وحفِلَ القسم الثالث بالصور المتتالية وأَسماء مصوِّريها، منذ أَقدمها سنة 1860 لمرفإِ بيروت ومحيطِه في عين المريسة والمدوّر وأَزقّة المدينة القديمة ومار مخايل وأَسفل الأَشرفية وخليج الزيتونة وميناء الحصن سنة 1880، إلى الفنادق الأُولى على شطّ بيروت سنة 1875، ومقهى الحاج داود سنة 1880، وساحة البرج سنة 1890، والجامعة الأَميركية سنة 1900، وباب ادريس سنة 1904، وسوق أَبو النَّصر سنة 1905، والمصيطبة سنة 1915، وسواها الكثير من الصوَر العتيقةِ زَمَناً والمعتَّقَةِ طباعةً، ما يُعطي كلَّ صفحةٍ نكهةً نوستالجيةً لذيذةً تَجعل كتابَ بدر الحاج “ بـيـروت… ضوءٌ على ورَق” ضوءاً في مكتباتـنا مُشعّاً بالحنين والحنان لـمديـنـتـنـا الكوزموﭘـوليتية التي بها نعتَـزّ، وظلالَها نـتـفَـيَّـأ، ونَجـمَـتَـها نرتقِب، حتى تَظلَّ بـيروت عاصمتَنا وعلامتَنا وعلاقَـتَـنا البهيَّةَ مع العالم.