في العادة أَن يعودَ التذكار إِلى الناس فيَخرجَ من ذاكرتهم أَشخاصاً وأَطيافاً وأَعمالاً وأَعلاماً وعلامات.
وحين يخرُج عن الناس قد يتَّخذُ البيوتَ والأَماكنَ فيَخرجُ منها ذكرياتٍ عن الناس وما كان لهم ومَن كان بينهم.
أَمّا أَن يَخرجَ التذكارُ من الأَزهار والأَشجار فَلافِتٌ قاربَهُ البحَّاثةُ العاشقُ بيروتَــهُ المحامي عبداللطيف فاخوري في كتابه “ذاكرةُ أَزهار وأَشجار بيروت” الصادر عن دار “الحداثة” (بـيروت) ودار “ذاكرة الناس” (الجزائر) سنة 2012 في 216 صفحة قطعاً كبيراً.
في الكتاب استرجاعٌ لأَيامِ بيروت الجميلة الملوَّنة العَطِرة، زمانَ كانت شرفاتُ بيروت مُزْهِرةً بالعطْر والذكريات، وأَشجارُ بيروت حاملةً ثماراً وفواكِهَ وبَرَكَاتِ أَيدٍ طيِّبةٍ زرعَت واعتنَت وقطفَت مواسمَ من عُمْرٍ وذكريات في معظم أَحياء بيروت: في الحدائق والبساتين، في المزارع والطرُقات، في المنازل والبيوت، فحمَلَت أَحياءُ أَسماءَها والذكريات، من الجمّيزة إِلى الصنوبرة إِلى الحرش إِلى المزرعة إِلى رأْس النبع إِلى جَلّ البحر إِلى الزيتونة إِلى عين التينة، إِلى تسمياتٍ اتّخذَت من أَزهارِ بيروتَ وأَشجارِها عناوينَ لها في البال والحنين: هُنا حوضُ وردٍ على شُباك، هناكَ قُدّام الباب فتنةٌ تَربَـى بدلال أَهل البيت، هنالك ياسمينةٌ مُعْرِشَةٌ تَحنو على خاصِرَة شُرفة.
عبداللطيف فاخوري رصَدَ تلك الرُّؤَى المعطَّرة، واستنطق ذاكرتَها فَرَوَت الأَزهارُ والأَشجارُ حكايتَها مع المكان والزّمان والناس، وكانت لها بين البيارتة أَمثِلَة: “الطُّول للنخل والتّخْن للجمَّيز”، “بزرة زيتون بْتِسْنُد خابيه”، “ما لقيو بالورد عَيْب قالوا يا أَحمر الخدّين”، “بْتِدْبَل الوردِه وريحتْها فيها”، “متْل الـخَــرُّوب: درهَم عسَل على قنطار خشَب”، … وأَمثلةٌ كثيرةٌ على لسان البيارتة جمعَها المؤلِّف في هذا الكتاب الطريف، افتَـتَحَهُ بقصّةٍ قصيرة بين حطّاب وشجرة، وبحوار لافتٍ بين بزرة قمح وذرّة تراب، وانصرف بعدها إِلى الأَزهار والأَشجار، بأَسمائها ترتيباً أَبجدياً، يَستنطقها حكايةَ كلٍّ منها فتروي الإِجاصة والبنفسجة والتوتة والتينة والخروبة والخوخة والحورة والدرّاقة والرمّانة والزنبقة والزيتونة والصبّيرة والصنوبرة والعريشة والفلّة والقراصية والقرنفلة والكينة واللوزة والليمونة والمشمشة والمنثورة والنخلة والنرجسة والوردة والياسمينة، وسواها كثيراتٌ، ولحكاية كلٍّ منها أَبياتٌ من الشعر استلّها المؤلِّف من منسيَّات الكتُب ومرويّات الأَشعار. منها قول المفتي الشيخ عبداللطيف فتح الله في القرنفلة:
في الروض قد أَزهَرَت قرنفلةٌ حمراءُ للقلب تَجلُب الفَرَحَا
كــــــــــــــــــــــــأَنها جَـمرةٌ بِـمِجمرةٍ من الزمرُّد عِطْـــــــــــــرُها نَفَحا
أَو قولُ شاعر بيروت أَبو الحسَن قاسم الكُستي في الوردة:
سأَلتُ ظَبْياً صغيراً شَمَّ وجْنَتِهِ فَمــــــــــــــال عني حَـياءً وانثَنى مَرَحَا
وقال: ليس لــــــــزرّ الورد رائحةٌ فاصبِـر إِلى أَن يصيرَ الزرُّ منفَتِحَا
أَو قولُ أَمين اللادقي في اللوزة:
يـــــــــا شجْرةَ اللوز في بيروت لاقينا قد كــان ريحُكِ في الأَجواء يْحيينا
فابكي حدائقَ كانت مِلْءَ بهجتِنا لم يبقَ منها سوى ذكرى تُؤَاسينا
وربما كي تَظلَّ الذكرياتُ نابضةً في الذاكرة من قلْبِ زهرةٍ أَو غُصن شجرةٍ، يظلّ في البال كتاب عبداللطيف فاخوري “ذاكرة أَزهار وأَشجار بيروت” مرجِعاً لتلك الذِّكريات البيروتية من مدينةٍ لا تزال، رُغم دخولِها حداثةَ العصر، تَختزنُ في بال البيارتة عطراً من زَهْر بيروت، وحفيفَ أَغصانٍ من شَجَر بيروت، وعُذوبةَ لقيا على هُنيهةٍ عاشقةٍ عند شاطئ بحر بيروت.
______________________________