حرفٌ من كتاب- الحلقة 190
“بالأَحـضـان يــا بَــلَــدْنا”- أَحمد عُلَبي
الأَحَـــد 12 تشرين الأَوّل 2014

Oulabi

          بين أَقرب الأَنواع الأَدبية إِلى القارئ، بعد السيرة الذاتية أَو الغيرية: أدبُ الرحلات، لِما فيه من خُصوصية في التعبير عن الـمُشاهدات والأحداث وَفْق مهارة الكاتب أُسلوباً وسَرداً ومضامين.

          في هذا السياق أَمامي الآن كتاب “بالأَحـضـان يــا بَــلَــدْنا” للكاتب أَحمد عُلَبي صادراً سنة 2009 عن دار الفارابي في 270 صفحة قطْعاً وسَطاً، قدَّمَ له الكاتب جان سالْـمِه بأَنه “مصنَّفٌ من نوعٍ طريف رحلاتٍ وقصصاً واعترافاتٍ وطُرَفاً وحميمياتٍ وانطباعاتٍ تُعيدُ إِلى أَيام زمان”. وإنه فعلاً كذلك: سياحةٌ داخلية في لبنان تَتَمَرجحُ من أقصاه إلى أقصاه مروراً بثناياه وحناياه وزواياه، تضفي عليها سخريةٌ عُلَبيّةٌ ملوّنة نكهةَ المتعة في متابعة الكاتب رفقةً سائغةً إلى أمكنة ممتعة خَرْتَشَها فارس غصوب بخطوط كاريكاتورية زادت من جوّها الماتع.

          في ستة فصولٍ وثّابة التَّـنَـقُّل ساح أَحمد عُلَبي في رحاب لبنان معلناً عشْقه المتوهج “رغبةَ الترحال في كل بقعةٍ من بقاع لبنان، مراتٍ مشياً في الطبيعة، مرات بالـﭙـولـمان”، هنا يندهش لجمال طبيعة الوطن، ويأنف هناك من تجاوزات تغتال تلك الطبيعة، ويغضب هنالك لفقر في أَمكنةٍ تُرجِعه إلى تخلُّف القرون الوسطى.

          هكذا وَسَم حُبَّهُ لبنان “موطناً طيِّـباً كقطعة سُكَّر” يتهادى فيه من مشمش إلى فنيدق إلى القمّوعة فالقبيات فحلبا فالعبدة، وإلى أميون فكوسبا فحدَث الجُبّة فالديمان فوادي قنوبين، فطورزيّا فإهمج فاللقلوق فالعاقورة فأفقا فغزير فالكفور فيحشوش فوادي أدونيس فكامد اللوز فالبيادر العدس فراشيا الوادي، فإلى معاصر الشوف فكفريّا فخربة قَنَفَار، ثم ها هو في جزين والريحان وضهر الرملة وزحلتا وجباع وعين بوسوار وجرجوع وعرب صاليم وقلعة الشقيف وأرنون، ويختم جميعَها بتنهُّدة عميقة: “وطنٌ بديعٌ مبدعٌ ربيعيُّ الأعطاف، لكنه مُبْتَلٍ بعلّةٍ طائفيةٍ بَغِيضةٍ لو عرف كيف يداويها بديمقراطيةٍ راقيةٍ حقيقيةٍ لغَدَا جنّةَ الوطن العربي الفسيح”.

          ويتّسع إيمانه بلبنان فيبتهل: “برغم حلَك الليالي، برغم فجوات الدم والدمار، برغم نافورة اليأْس ومستنقع القهر وليل الانتظار، ستطلعُ يا وطني من كوّة العتمة وشبابيك الزنازين لتعانقَ نداوة الإِصباحات المنتظَرة عناقاً كلهفة العشاق إلى المواعيد، توَقَان الجدول إلى الينبوع والرغبة المشبوبة في غيمة حبلى بالوعود والاخضرار كي تفيض وتنهمر”.

          هكذا، سحابةَ هذا الكتاب الجميل وطيلة رحلاته اللبنانية الداخلية الممتعة، تنقّلتُ مع أحمد عُلَبي في فصول كتابه إلى رحلة انطباعية في الوردانية، وويك إند في إهدن، ولقائه القَمَر على تلال ضهر البيدر، وجلوسِه تحت مشمشة حد شجرة الحنبلاس، وتذوُّقِهِ أيلول بيروت الخريفي، وتمضيتِه تموزاً فريداً في شانيه، وأويقاتِه العَذْبة في منشيّة بيروت وسْط حديقة الصنائع، وأَيامٍ له عِذابٍ في أحضان البترون، وإجازة الفطْر خمسة أَيام في حضن دوما.

وتمضي صفحاتُ الكتاب… تمضي في سلاسَة كاتبٍ متمَكِّنٍ لغةً وأُسلوباً ومادةً لبنانية جعلَها عَذبةً كرغيف مرقوق غادر الصاج أو حبةِ عنب نضَجَت في فَـيْءِ عريشة.

          أُغلق هذا الكتاب “بالأَحـضـان يــا بَــلَــدْنا“، وأتمنى ألاّ يكون انغلق، وأنْ ينفتحَ آخَرُ بهذا القلم اللبناني العريق العميق العبيق، وأحِبُّ من أحمد عُلَبي كتابةً طالعةً من أَرضٍ لبنانية حاملةً في أَغصانها بَراعمَ زهرٍ يلوِّنها بطِيبِه وعَرْفِه ربيعُ لبنان.

____________________________________

http://claudeabouchacra.wordpress.com/2014/10/18/