كان محظوراً على يوليوس قيصر عبورُه الحدودَ بجيشه، فصدر أَمر مجلس الشيوخ بتنحيته عن القيادة فيما كان يتحفّز لعبور نهر الروبيكون (الحدوديّ بين شمالي إِيطاليا وجنوبي بلاد الغال). بلغه النبأ. كان أَمام قرارَين: التراجُع ذليلاً أَو التقدُّم منتصراً. قــرّر الإِقدام مطْلِقاً عبارتَه الشهيرة: Alea iacta est “النردُ انرمى” (أَي “اتُّخِذَ القرار” ولا مجال للتراجع).
وأَقْدَم القيصر وحَـمَلَتْهُ حَـمَلاتُه اللاحقة إِلى عرش روما أَمبراطوراً مطْلقاً سارت بَعدَه عبارتُه “النرد انرمى” عبرةً لكل قائد حازم.
في العالم اليوم: “النردُ انرمى” وصدر القرار اللارجوعَ عنه: محاربةُ الإِرهاب سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، لاستـئْصال حركات إِرهابية متطرّفة تُنذِرُ بتغيـير جغرافيا العالم وديموغرافياه.
أَين نحن من كلّ هذا؟ نَــرْدُنا مفقود، ونترجّى من يحمل النـرد عنا ليأْخذنا إِلى مستقبل وطننا.
نَردُنا أَضعناه. رميناه في وادي مشاحناتنا السياسية التجاذُبية العناديّة، وها نحن نَدور على أَبواب الدوَل طالبين مساعدتَها المالية والعسكرية والسياسية و”التفاوضية”.
في بلدان العالم: “النردُ انرمى” والقرارُ أَن تسير البلاد في دروب السلام والأَمن والعمران والتطوُّر في كلّ قطاع.
وعندنا نحن؟ “النردُ انرمى” وبغياب القرار تنزلق البلاد في دروب الـهَوَر والـهَوَارة والتَّهَوُّر والـمهْوار والانهيار.
في أَيّ مزرعة نحن، يَسوسها بضعةُ سياسيين والباقون حاشيةٌ وأَزلام؟
أَيةُ قبائل نحن، تخضع لها البلاد مُـجزَّأَةَ الانتماءات إِلى زعماء القبائل؟
عندنا “النردُ انرمى” لا للتكميل بل للتعطيل، لا للبناء بل للعَناء، لا للتقدُّم بل للتهدُّم، لا للروضَة بل للفوضَى، لا للأَحقاب بل للأَحقاد، لا للانتظام بل للانتقام، لا لدعْم العَلَم بل لهدْم القِيَم، لا لتلبية المطاليب بل لخدمة المحاسيب، لا للغوص على احترام الدستور بل للدوس على حطام الدستور، لا لانطلاق البلاد بل لانزلاق البلاد.
البلادُ التي معظمُ سياسيّــيها جماعاتٌ مُشرِّشةٌ من ماضيها إِلى حاضرها فمستقبلها يتوارثون السلطة أَباً عن جـدٍّ لأَبناء، هي مزرعةٌ لا دولة يُرجى لها مستقبل.
البلادُ التي أَكثرُ سياسيّــيها يستخدمون دولتَها وشعبَها لخدمتِهم عوضَ أَن يكونوا هم في خدمة الشعب والدولة، لا يُعزى لها تقدُّم، ولن تقوم فيها دولة طالما فيها مَن يعطِّل قيام الدولة.
البلادُ التي فيها مـحاسيبُ وأَزلامُ يهلِّلون لزعمائهم بَــبَّــغاوياً أَغنامياً، لا يمكن شعبها أَن يطلب رؤْية الشمس طالما جبينه منكَّسٌ صوب ظلال أَسياده على التراب.
ولكي يجيْءَ يومٌ يكون فيه “النردُ انرمى” في دروب اللاعودة إِلى ما تعيشُ بلادُنا اليوم، يلزَمُنا أَن ننتظر مَن يكون، على الأَقلّ، في حزم قرار يوليوس قيصر.