قلتُ مراراً في هذا البرنامج أَنْ لو قام في كلّ ضيعةٍ أَو قريةٍ أَو بلدةٍ أَو مدينةٍ أَو ناحيةٍ مَن أَرَّخ لها وسجَّل تاريخَها وخصائصَها، لاجتَمعَ لدينا عن كلّ لبنان سِفْرٌ فريدٌ غنيٌّ، لِـما في لبنان من تَنَوُّعٍ وفَرادةٍ وغنىً في كلّ بقعة تحت سمائه الجميلة.
أَمامي، في هذا السياق، كتاب “قريتي جرجوع” لــسامي حسين مشورب، صدر سنة 1997 في 112 صفحةً مزودةً معلوماتٍ وإِحصاءاتٍ وبياناتٍ وصُوَراً تَجعل الكتاب زيارةً حيّة لهذه القرية الجنوبية الهادئة.
“جرجوع”في السريانية: “الهضبة”، وهي فعلاً على تلةٍ في قلب إِقليم التفاح جنوبـيَّ جبل نيحا، غربـيَّ جبل الريحان، تنحدر أَراضيها شَرقاً صوب وادي نهر الزهراني، جَنوباً صوب عربصاليم، غرباً صوب صربا وحومين الفوقا. وهي على نحو 1000 متر عُلُوّاً، تَبعُد عن بيروت نحو 65 كلم جنوباً، ويمتدّ خَراجها إِلى بعضٍ من السلسلة الغربية. تَحفَل أَرضها بالصخور الكلسية والصوانية، تُربتُها حمراء وبيضاء وصفراء وسوداء، أَشجارُها سنديان وقندول وبلاّن، ينابيعُها غزيرة وجداولها كثيرة. مناخُها معتدل في الأَربعة الفصول، مناظرُها الطبيعية جميلة، بيادرُها نادرةٌ وفريدة، هضابُها والأَودية لوحةٌ طبيعية ناطقة. أَراضيها زراعيةٌ خصيبة حبوباً وفواكه، من صناعاتها البُسْط والعباءات والفخّار والسلال وعصر الزيتون وطحن الحبوب والمدافئ والأَفران.
سكّانها نحو خمسة آلاف نسمة من مختلف العائلات الروحية اللبنانية. من معالـمها: مسجدٌ، كنيسةٌ قديمة وأُخرى حديثة، جسرُ نهر الزهراني، حسينيّةُ رأْس البيدر، بئر أُرتوازية كبيرة. ومن معالمها التاريخية: قناة زُبَــيدة، ومقامات دينية.
في تاريخها أَنها تعرّضت لنكَبات عدَّة وعَرَف أَهلها التهجير القاسي، على عهد الأَمير يوسف الشهابي سنة 1777، وعلى العهد العثماني في الحرب العالمية الأُولى حين ضرَبها الجوع وزحَف عليها الجراد فشتَّت شعبَها إِلى المهاجر البعيدة ولم يعودوا إِليها، وعلى عهد الانتداب الفرنسي، ثم إِبّانَ الحرب اللبنانية الأَخيرة، خصوصاً سنتَي 1989 و1990 حين أَصابها دمار وقصف شديدان من العدو الإِسرائيلي، ثم سنة 1993 واعتداء 1996 ومجزرة قانا التي لفحت أَهلَ جرجوع بالكثير من المآسي.
وفي اجتياح إِسرائيل أَرض الجنوب سنة 1982 والمآسي بعدها، سقط لجرجوع شهداء كثيرون.
وفي جرجوع مجموعةٌ نيّرة من المثقّفين والجامعيين وذوي المناصب الراقية حقوقاً واقتصاداً وطِبّاً وهندسةً وأَدباً وموسيقى وغناءً وقضاءً وصحافةً، وعددٌ كبير من حَمَلة الدكتوراه في قطاعات جامعية عليا.
نَخرُج من صفحات هذا الكتاب لنَدخُلَ في تقدير واحةٍ جديدة من واحات لبنانية كثيرةٍ تتفرّد بأَهلها، بتاريخها، بمعالِـمها، بطبيعتها، لتكون شعلةً لبنانية منوّعة ملوّنة، كما جرجوع التي طالعناها اليوم، تنضمّ إِلى رَبـيـبـاتٍ لها لتجعل من لبنان باقاتِ جمالٍ وشُهُباً على الأَرض ترنو إِلى شُهُب الفضاء فَيَتَكَوكَبُ لبنانُ بها بلَداً يزهو بإِرثِ أَبنائه وتاريخه، ويَشُعُّ فريداً مُغايراً بين البلدان على خاصرة هذا الأَزرق المتوسط.