لا هذا التراثُ ينضُب، ولا ينفَكُّ أَبناؤُه ينبُضُون بالكشف عنه وإِطْلاعِ كنوزه من صدر الأَرض ومن قلب التاريخ.
ها واحدٌ منهم كرَّس قلمَهُ منذ مطالعه ليحسُرَ عن تراث لبنان ويُطلِعَ في كلّ كتابٍ شمساً جديدةً لتراثنا الـمُشعّ على العالم.
إِنّه الدكتور يوسف الحوراني، المؤرِّخ في الحضارة اللبنانية، وإِنّه كتابه “من تراث لبنان“ الصادر سنة 2003 عن “دار الحداثة” في 184 صفحة قطعاً وسَطاً حاملاً تسعةَ فصولٍ من قلب التراث اللبناني كرَّس مُعظمَها لأَرض الجنوب صُوْراً وصيدوناً وحرْموناً.
قبل منظمة الأُونسكو واعتمادِها مَعالِـمَ من لبنان على لائحة التراث العالَـمِي، وَرَدَ لبنان في مؤلَّفات القدامى والـمـُحْدَثين جوهرةً تتكوكبُ حولَها دُروسٌ ودِراسات. منها أَقدَمُ إِشارة في التاريخ عن مَعْلَمٍ كنعانيٍّ قديم أَشارَت إِلى أَنّ فْروناوُس جدَّ قدموس الصّوري هو الذي، قبل ﭘـروميثيوس، علَّم الناسَ استعمالَ النار. ومنها قولُ أَبي التاريخ هيرودوت أَنّ طاليس أَوّلَ الـحُكماء الإِغريق هو من سُلالةٍ فينيقية، إِليه يُنسَب التنبُّؤُ بكُسوف الشمس وتأْسيسُ علْم الهندسة وعلْم الفلَك. وهذه حقائقُ تبنَّـتْها منظمة الأُونسكو وأَرّخَتْها أَكاديمياً فباتت اليوم مرجعاً ثابتاً لعلماء التاريخ والآثار.
ويلِجُ الحوراني مساحةَ لبنان الاسم والـهُوية فيأْخذه تَعلُّقُ اللبناني بأَرْضه ومواسمها، ومكوِّنات الشخصية اللبنانية سنَداً لأَرضه الخيِّرة، ما يجعلُ استمراريةَ السَّكن في أَرض لبنان نُزوعَ تَدَيُّنٍ لازمه تراثٌ متواصلٌ بلا انقطاعٍ منذ آلاف السنين. من هذه الأَرض انطلقوا بسُفُنِهم من خشب الغابات الـمُجاوِرَةِ البحرَ فربطوا قاراتٍ ثلاثاً بعَلاقاتٍ تجاريةٍ متطوّرة تحوَّلَت لاحقاً ثقافيةً إِنسانيةً عامّة.
ويخلص الحوراني إِلى أَنّ أَرضَ لبنان “ليست جبالاً ورائحةً زكيةً وملاذاتِ تعبُّدٍ وحسْب، ولا سهلاً ومُدُناً في جوار موانئَ أَو غابات، بل هي حصيلةُ تجاربَ إِنسانيةٍ وتَلاقي تواريخَ كانت الأَرضُ ولا تزال شاهدةً على وقائعها ونتائجها”.
وفي فصلٍ عن “الـمُدُن الفينيقية الغارقة” يُركّز المؤلّف على صُوْر التاريخية بين النار والبحر وَفْقَ وثائقَ في طليعتِها رسالةُ ملك صُوْر إِلى فرعون مصر تشيرُ إِلى أَنّ “مدينةً أُوغاريتيّةً فقدَت نصفَها والنصفُ الآخَر احترق بالنار”. وفي هذا الفصل وثائقُ ومستنداتٌ تشيرُ إِلى أَنّ في قعر البحر على الساحل اللبناني، خصوصاً قُبالةَ صيدا وصُوْر، شوارِعَ مبلّطةً تحت الماء وأَبنيةً مُهَدَّمةً بينَها ما يُرجَّحُ أَنّها ساحاتٌ عامّة تحوي تماثيلَ حيوانات كانت وَفْق العقائد الفرعونية تماثيلَ مقدّسة.
ويتطرّق الحوراني إِلى صيدون الأُولى في محفوظاتٍ فرعونيةٍ بين رسائل تلّ العمارنة ونُصوص أُوغاريت، ترجِّح ارتباط الاسم بإِلهٍ قديمِ يُدعى “صيد” انتسبَت إِليه المدينةُ شفيعاً لها كتسميات قُرىً عدّةٍ في الجنوب اللبناني مُعظمُها يرقى إِلى القرن الخامس ق.م. وفي هذا الفصل ذكْرٌ لاتحاد صيدا وصُوْر زمنَ حيرام، وكان عصراً مزدهراً جعلَ الـمُؤَرِّخ ﭘــول موران يقول إِنّ “صيدا وصُوْر في فترةٍ ذهبيةٍ من التاريخ كانتَا جُلَّ تاريخ العالم”.
ومن أَبلغِ فصول الكتاب: الثامنُ الذي يَسْرُد فيه المؤلّف تاريخيّةَ جبل حرْمون الوارد ذكْرُه في المراجع القديمة على أَنّه “جبلٌ مقدَّسٌ مُـمتلئٌ بـمعابدَ” ذكَرَها المؤرّخون منذ رحلة غلغامش السومريّ إِلى ملحمة البعل الأُوغاريتية، بلوغاً إِلى أَنّ حرْمون هو “جبل التجلّي” الذي ارتقاهُ المسيح من قيصريّة فيليــﭙـُّس وَفْقَمَا تَذكُر الأَناجيل: “أَخذَ يسوعُ بطرسَ ويعقوبَ وأَخاه يوحنا وانفرد بهم على جبلٍ عالٍ، وتجلّى فأَشرقَ وجهُه كالشمس وصارت ثيابُهُ بيضاءَ كالنور”.
“من تراث لبنان“ للمؤَرِّخ يوسف الحوراني مرجِعٌ ثقةٌ عن تاريخنا وإِرثنا وأَرضِنا، ونداءٌ من قلب الضمير إِلى قلوب اللبنانيين أَن يَعُوا أَيَّ إِرثٍ يحمِلون في وطنهم لبنان، وأَيّةَ مسؤُوليةٍ عليهم أَن يعرفوا كيف يُحافظون عليها كي لا يتسلَّلَ وطنُهم منهم كالزئبق وهم غافِلُون، وكي لا يُصبحوا مُشرَّدين على دُروب الشَّتات أَو نازحينَ لاجئينَ على أَبواب الدُّوَل.
_____________________________________________
http://claudeabouchacra.wordpress.com/2014/08/05/