قد يبدو هذا العنوان أَفضلَ ما به توصَف اليوم حالةُ لبنان بما يتخبَّطُ فيه من أَنواء أَمنية وعواصف سياسية واضطرابات اقتصادية، وما يشهدُ حالياً من انقسامات في صفوف اصطفافيين من أَبنائه بين صفٍّ في جهةٍ وآخَرَ في أُخرى، وسفينةُ الوطن تهتزُّ وتضطرب وتتهاوى، لا قبطانَ يقودُها ولا بحارةَ يمسكون بها من طرفٍ واحد ليشدُّوها صوب اتجاه واحد: ميناء الخلاص.
“نحن الآن في حالةٍ حرجة”. كلُّ ما في هذا العنوان يدلُّ على كونه يَقصدُ ما يَحدُثُ اليوم.
غير أَنه يعود إِلى أَكثرَ من قرن، لعبارةٍ ورَدَت في نصٍّ قديم مخطوطٍ لـجبران صدَر في كتاب “إِقْلِبِ الصفحة يا فتى”، جاء فيه: “نحن الآن في حالةٍ حرجة. نحن بين مساء الأَمس وصباح الغَد. بعضُنا نائمٌ يغطُّ غَطيطاً مزعجاً وبعضنا ساهرٌ يُراقب النجوم”.
وبعد أَكثر من قرنٍ ما زال الوضع على ما هو: بعضٌ من المعنيين يغطُّ في غيابٍ لامُبَالٍ، والبعض الآخر ساهرٌ يراقب النجوم علَّها تأْتيه بإِلهامِ حلٍّ ما زال في المجهول.
غريبٌ هذا الوطنُ المصلوبُ على جلجلة الزمن: لا يستريح حقْبةً إِلاّ تَفْجَأُه حقْبةٌ عاصفةٌ مزلزلةٌ تهزُّ كيانه وتشرِّد أَبناءَه وتسُدُّ في وجه كلٍ جيلٍ منه جديدٍ منافذَ الأَمل ونوافذَ الطُّموح.
منذ نصّ جبران في مطلع القرن الماضي،كان لبنانُ تحت نير العثمانيين وقهْر سفَر برلك، مرّت به الحرب العالمية الأُولى وأَهوالها وويلاتُها، فالحربُ العالمية الثانية وفواجعُها، ومرَّت به حوادثُ 1958 وحوادثُ 1973 وبرُكانُ 1975 وصولاً إِلى اليوم وما يضرِب سفينةَ الوطن من هَزّاتٍ كُبرى تُصوِّب على كيانه.
كأَنما فترات الازدهار والرخاء في لبنان مراحلُ اعتراضيةٌ بين هلالين، وكأَنما قَدَرُهُ أَن يظلَّ في عين العاصفة وفُوْهَة البركان مُشَرَّعاً مراتٍ على احتلالٍ وانتدابٍ ومراتٍ على حروب الآخرين فوق أَرضه، ونادراً ما يُتاح له أَن يكونَ لبنانِـيَّ القرار، فيما معظَمُ مسْؤُوليه يحرّكهم “ريموت كونترول” من الخارج تعييناً أَو تنصيباً أَو إِيحاءً أَو ترئيساً أَو توزيراً أَو تَنْويباً أَو توظيفاً، ويبقى فيه طوباويون يحلُمُون بالكيان اللبنانـيِّ القرار والمصير، لعلَّهم، ولو هُمُ الأَضعفُ صوتاً وتأْثيراً، همُ الأَحرار الذين عليهم ينهضُ لبنان كلَّ مرةٍ، أَكانوا في الحُكْم أَبطالاً، أَم خارجَه بأَقلامهم وأَفكارهم ومزاولاتهم حتى تظلَّ في الوطن خميرةٌ جيدةٌ لِغَدٍ جديد.
في نص جبران المذكور ورَدَت هذه العبارة: “النائمون بيننا كُثُرٌ يحلُمون بما كان في الأَمس لا بما سيكون، والساهرون بيننا قليلون يَحلمون في يقظتهم بما في الغد سوف يكون. هؤلاء هم الذين سَيَبْنُون فوق الخرائب بُرجاً جديداً من حجارةٍ جديدة”.
بعد أَكثر من قرنٍ لا يزال قولُ جبران عن لبنان الأَمس يصحُّ على لبنان اليوم: كثيرون بيننا باعوا قرارَهم للخارج واستسلموا واستزلموا كي يَصِلُوا، ولو على حساب شعبهم ووطنهم، وقليلون بيننا لا يَزالون يؤْمنون بلبنانَ أَولاً وأَخيراً، لهُ الولاءُ ولا لسواهُ الوفاء، وهؤُلاء هُم الذين عليهم قام لبنان من كَبَوَاته، كما سيَقوم هذه المرة أَيضاً من كَبْوَتِهِ الحالية، وهم الذين سيُنقِذون لبنان من حالته الحَرِجَة وربما من حالات حَرِجَةٍ مقْبلةٍ كي يكونَ الوطن لأَولادنا وأَولادهم لُبناناً رائعاً مُشِعّاً كما في أَزهى عصور رَوْعَتِه وإِشعاعه الكبير.
________________________________________________________