هل يُمكنُ كاتبٌ أَن يبقى نَصُّه مُعاصراً بعد 110 سنوات على كتابته؟
يبدو أَنْ يمكن، حين الكاتبُ أَديبٌ رُؤْيويٌّ طليعيٌّ من طراز أَمين الـريحاني.
فها هو، بعد 110 سنوات على نشْـرِهِ مجموعةَ مقالاته في زاوية “كشكول الخواطر”، لا يزال نصُّه نابضاً ويتوجَّه إِلى قُرّاء اليوم ومجتمع اليوم ناهراً إِياهُ على ضلالٍ يَنخُر أَجياله ويُعطِّل شروقها إِلى شمس الحرية والعَلْمانية ونَبْذ التعصُّب من كلّ نَوع.
خمسون نصاً “ريحانياً” في كتاب “كشكول الخواطر” (العنوانُ ذاتُه الذي كان لزاوية الريحاني في جريدة “الهدى” النيويوركية بين 1901 و1904) جَـمَعَها الباحثُ الأَدبي جان داية وحقَّقَها ونسَّقها وقدَّم لها وأَصدرها في هذا الكتاب عن منشورات “فجر النهضة” في 272 صفحةً حجماً وسطاً وصورةِ غلافٍ للريحاني الشابّ ابنِ الخامسة والعشرين زمنَ كتابةِ تلك المقالات.
بعد مقدمةٍ وثمانية مقالات توضيحية من الباحث داية، ينفتحُ “الكشكول” على فضاءٍ من مواضيعَ ريحانيةٍ هي، منذ مطالع كاتبِها، ناضجةُ التفكير في زمانها مقارَنةً بِـالْكانَ يعتري الفكرَ العربي يومذاك، ما يشير إِلى ثقافة الريحاني الواسعة في تلك السن الباكرة. فهو ينتقد الداروينية، ويناقش أَعمالَ تولستوي وأَفكارَ ﭬـولتير، ويَستشهد بجان جاك روسُّو، ويَكتُب في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتغْيير، ويُجاهِر بانحيازه إِلى فلاسفة القرن الثامن عشر وفكْرهم التَّنْويري الـمُهَيِّئِ الثورةَ الفرنسية التي أَشرقَ منها المجتمع العلماني الحر.
هكذا بفكْرٍ نقديٍّ صارمٍ عالج الريحاني في مقالاته “الكشْكُولية” شؤُون المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الناس وخصوصاً في لبنانَ زمنَ المتصرّفية إِبّانَ سيطرة السلْطنة العثمانية، وبفكْرٍ إِصلاحيٍّ أَضاءَ على مساواة المرأَة وحقِّها بتأْصيل خِبْرتها في السياسة وإِدارة الشأْن العام، ودعا إِلى تشْجيعها على العلْم والاعتماد على ذاتها في كُلّ ما تسعى إِليه، وبفكْرٍ علمانيٍّ متنوِّرٍ واعٍ دعا إِلى التسامح الذي يَمنعُ العنف، وإِلى التساهُل الديني والاجتماعي الذي يَمنعُ التَّشدُّد والتعصُّب، وإِلى الإِصلاح بالوعي الذي يرتقي به المجتمع إِلى مراتب التطور والحضارة، فالثورات لا تُغَيِّرُ الواقعَ إِذا بَقِيَ الناس عمياناً منقادين إِلى زعمائهم.
وواضحٌ من هذه المقالات أَنْ كان للريحاني منذ مطالعه عقلٌ مُطَّلِعٌ على تجارب الشعوب وأَفكار مُثَقَّفيها فاستخْلَصَ منها أَفضلَ ما يَصلُح لشعبه ووطنه وسكبها في مقالاتٍ ترفض التطرف والاستبداد والاستغلال وتَحُثُّ على المواجهة والانخراط في تحسين البلاد وإِبعادها عن السلَفيّة الدينية التعصبية باسْم الصفاء الديني وعن السلَفيّة القومية الصراعيّة باسْم الصفاء العِرْقي.
ويبدو الريحاني في نصوصِه متمكِّناً من مضمونه مادَّةً، ومن أُسلوبه حادّاً ساخراً قاطعاً في ما يَبُثُّ من أَفكارٍ لا يزال معظمُها صالحاً لزماننا ولُـمَعاً لكلّ زمان، ومنها: “الضَّريرُ الواقفُ على شفير الهاوية لا يَحتاجُ إِلى مَن يدفَعُهُ للسُّـقـوط”، أَو “الحجارةُ الكريمةُ تُــوجَدُ أَحياناً في الوُحول والأَقذار” أَو “إِذا شئْتَ أَن تعرفَ مَن هُــو عَــدُوُّكَ الأَلَــدّ فَــتِّــشْ عليه في نفْسِك”، أَو “قبْل أَن تُـقَـوِّضُوا أَركانَ الحكم القديم الفاسد هَذِّبُوا الشَّعبَ وأَوْجِدُوا رِجالاً أَشِدّاءَ حُكَماءَ نُزَهاءَ يتوَلَّونَ زمامَ الحُكم الجديد”، أَو “تَختلفُ وظيفةُ الرَّسولِ عن وظيفة السياسيّ كما يَختلفُ البطريركُ عن الـمُتَصرِّف والـمُصْلِح. الذي يقلِّدُ نفسَهُ الوظيفتَيْن يَجْلُبُ البَلاءَ إِمّا عَلى الدِّين وَإِمّا عَلى الوطن”.
بلى: يُمكنُ كاتبٌ أَن يبقى نصُّه مُعاصراً بعد110 سنوات على كتابتِه حينَ الكاتبُ رُؤْيويٌّ طليعيٌّ من طراز أَمين الـريحاني.