إِنها روما… روما ذاتُها التي كانت تشهد في باحات الكوليزيوم، أَمام آلافِ الناس على الـمَدارج، مشاهدَ مأْساويةً يُفلتُ فيها الحاكم النيروني وُحُـوشاً جائعةً تَنهش أَجساد الأَبرياء الـمحكومين بالإِعدام، أَو مصارعين مفتولي العضلات يَقتلون جنوداً أَعداءَ مهزومين، ها هي قبل أَيام شهدَت في ﭬــاتيكانها مشهداً مُعاكساً تماماً يحدثُ للمرة الأُولى في التاريخ ببادرةٍ من رأْسِ الكنيسة البابا فرنسيس: ترجيعُ الصلاةِ قراءاتٍ من فُصول الإنجيل، وأَصداءَ الأَذان تلاواتٍ من آيات القرآن، وترديدَ مقاطعَ من أَسفار التوراة، في ظاهرةٍ روحيةٍ لأَجل السلام في العالم.
وإِنها برلين… برلين ذاتُها التي كانت تَشهدُ في وسَطها نشوبَ جدارٍ عالٍ سُـمِّيَ “جدار الحقد والعار”، فاصلٍ بين أَلْـمانْيَتَين مُتكارهَتَين مُتخاصمَتَين مُتعاديَتَين، وأُوروﭘـا مشطورةً منذ 12آب1961 شرقيةً وغربيةً بــ”ستارة حديدية” يحرسُها عن الجانبَين 14 أَلف جندي و300 برج مراقبة و600 كلب ﭘــوليسي ومئاتُ أَمتارِ الأَسلاك المعدنية، برلين التي هدَمَت ذاك الجدار في 9 تشرين الثاني 1989 مع انهيار المنظومة السوفياتية، شهِدَت قبل أَيامٍ ظاهرةً تكرِّس السلام بين الأَديان بِـما سُـمِّي “بيتَ الصلاة الموحَّد” في وسط برلين، سيضُمُّ مسجداً وكنيسةً وكنيساً تحت سقفٍ واحدٍ، بدأَ جمعُ التبرعات لتنفيذه خلال الأَربعة الأَعوام المقبلة ليَشهَدَ في حَرَمِهِ إِماماً وكاهناً وحاخاماً يُصَلُّون في مؤْمنيهم الوافدين إِلى مصلّى واحدٍ يحقِّق التعايش والتسامح بين أَتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
تلك روما بين الأَمس البعيد واليوم: من مشاهد الحقد إِلى مشهد السلام.
وهذه برلين بين الأَمس القريب واليوم: من جدار التذابُح إِلى مُصَلَّى التسامُح.
هذا هناك… فماذا عمّا حولَنا هنا؟
هنا نارٌ عمياءُ هوجاءُ تجتاح مُدُناً وقرىً وبلداتٍ وبلداناً تُؤَجِّجُ فيها ظواهرَ دينيةً وطائفيةً ومذهبيةً تسبِّبُ ردودَ فعلٍ مماثلةً دينيةً وطائفيةً ومذهبيةً.
هناك: دخولٌ في القرية الكونية الواحدة المستحِقَّة القرنَ الحادي والعشرين، وهنا: عودةٌ إِلى جاهليةٍ مُستَمِدَّةِ طقْسَها من حربِ داحس والغبراء بين بَني عبْس وبَني ذُبيان وأَحفادِهِم اليوم، أَو حربِ البَسوس بين بَني تغلب وبَني بكْر وأَحفادهِم الجُدُد.
هناك: الدين مرقاةٌ إِلى فوق، إِلى الواحدِ الأَحَد، الفَردِ الصَّمَد، الذي لم يَلِد ولم يُولَدْ ولم يَكُنْ له كُفُؤاً أَحَد، ربِّ العالَـمين، الرحمنِ الرحيم، الإِلهِ الواحدِ الضابطِ الكُلّ، خالقِ السماءَ والأَرضَ وكلَّ ما يُرى وما لا يُرى، النورِ من نور، الإِلهِ الحقّ من إِلهٍ حَقّ، المولودِ غير المخلوق، وهُنا: باسم هذا الإِله ذاتِه يُصَوِّبُ مُسَلَّحٌ بندقــيَّــتَــه إِلى أَخيه الإِنسان ويَقتُلُه إِعداماً أَو تفجيراً.
هناك: الإِنسانُ قيمةٌ قِيَمِيَّة، وهنا: الإِنسانُ ثِيمةٌ ضحيّة.
ويُحدِّثونكَ بعد، عن مجلسٍ للأَمن، وعن أُممٍ متّحدة، وعن جامعةٍ عربية، وعن شُرعةٍ عالَـميةٍ لـِــــ…حقوق الإِنسان!