أزرار- الحلقة 846
الدماغ الموسيقي (2/2)
السبت 31 أيار 2014

 

          في “أَزرار” الأُسبوع الماضي وَرَدَ أَنّ “لكُلّ جيلٍ جديدٍ موجتَه الموسيقيةَ الجديدة، وسيطةً جامعةً تتنامَى مع الأَجيال عنصراً انتمائياً يتّخذ أَشكالاً مختلفةً جيلاً بعد جيل”.

          وإِذا من طبيعة الموجة الجديدة أَنْ تُلغي سابقاتها لتـتّخذ مكانها، فليس من الطبيعي دوماً أَن تكون الموجة الجديدة ذاتَ فاعليةٍ أَو مستوىً أَو جُودةٍ تُؤَمِّن لها الديمومة من جيلٍ إِلى جيل. الذاكرة الجماعية لا تَحفَظ كُلَّ كَمٍّ متراكِمٍ بل تنتقي ما يستحقُّ مع السنوات أَن يتأَصَّل وينضُجَ حتى يُصبِحَ خالداً بشعبيّته أَو كلاسيكيّته.

          ولـهذا الباقي مع السنوات مقايـيسُ ومعايـيرُ ونُظُمٌ وأُسُسٌ تقيه الاندثار، منها الذوق الجمالي والشغل المتأَنّي والصقْلُ الدقيق حتى الضنى، والاستجابةُ إِلى ما يُرضي الذائقةَ السليمةَ الناصعة لا إِلى ما يريده “الجمهور الحبيب” وإِلاّ كان هذا الجديدُ طَفرةً أَو دُرْجَةً أَو مَوجةً أَو مُوضةً أَو “صَرعةً” أَو فَورةً تستقطب الملايـين لكنها تَـتَـنَـكّر للفن والذوق ومفهوم الجمال لذا تزول كما تزول الموجةُ العارمةُ الزبدِ الملوّن حين تَبلغُ الشاطئ ويَبتلعها الرمل والحصى.

          ونشهد اليوم “صرعات” موسيقية عابرة ستزول سريعاً بين الحصى، أَحدثُها “السيّدة الملتحية” كونشيتّا وُوْرْسْت: الشاب النمساوي المخنَّث الذي فاز الأَول في مباراة أُوروﭬـيزيون (كوﭘـنهاغن) وأَثار جدلاً مؤَيّداً أَو شاجباً لشكله المنفِّر رغم انتشاره في وسائط التواصل الاجتماعي والمواقع الإِلكترونية على ملايين المشاهدين والزوار.

          لهذه المواقع وتلك الوسائط تأْثيرٌ على انتشار الموجات والصرعات، فلا رقيبَ على موقع ولا حسيبَ على وسيط تواصل: مَن يشاء يمكنُه أَن يَكتبَ ما يَشاء ويوصلَه إِلى حيثُما يشاء، متفلّتاً من كلّ رقابةٍ ومعيارٍ وقاعدة، ويَنْشر السيّئ من الصرعات كَمّاً لا نوعاً وعدَداً لا جُودة فيَسهُل للموجة انتشارٌ كان عصياً في الماضي على المبدعين الأَصيلين موسيقيين ومؤَلّفين وملحّنين ومغنّين حين كان الجمهور يقصُدهم كي يحضرَ حفلاتهم وكانوا يحترمونه فلا يقدِّمون إِلاّ ما يليق بالجمهور القاصد.

          وما أَقوله عن الموسيقى وما يُفرزه أَو يتلقّاه “الدماغ الموسيقي” (عنوان هذا المقال) أَقولُه عن الطفْرات والموجات والصرعات في الشعر والرسم والنحت والمسرح والسينما وسائر الفنون التي، باسم الفن، “يرتكب” أَصحابها أَعمالاً تدَّعي الحداثة وبُـنُـوّة العصر بلا مقايـيس ولا ذوق ولا نُظُم ولا قواعد.

          لهؤلاء أَقول إِن الوردةَ قديمةٌ كالأَرض، جديدةٌ كالصباح، ومع ذلك لم تُغيِّر مُوضة شكْلها باسم بُنُوّة العصر، ولا صَرعةَ عطرها باسم الحداثة، بل هي باقيةٌ شعبية وكلاسيكية من جيلٍ إِلى جيل ومن عصر إِلى عصر.