بعدما دخَلَ العِلْم على أَصغر جُزَيْـئات الكون، ومنها جسمُ الإِنسان، لم يَعُد كلامٌ على العاطفة خارج تحديدات العِلْم.
وها هي الموسيقى – هل أَبلغُ عاطفيّةً من الموسيقى تأْليفاً أَو أَداء أَو تَـلَـقِّـيـاً؟ – تأْخُذ من العِلْم مَصدراً لكثير تفسير.
في دراسةٍ أَكاديمية لإِيزابيل ﭘـيريتْزْ -أُستاذة السيكولوجيا في جامعة مونريال، متخصِّصة في علْم الموسيقى ورئيسة فريق بحثيّ حول سيكولوجيا الأَعصاب الاختبارية- أَنّ للموسيقى والكلمة في الدِّماغ مَسلَكَيْن عَصَبيَّيْن مُنفصلَين تماماً. لذا قد ينطفئُ الذَّكاء عند المرء ويبقى نابضاً في دماغه عصَبُ الموسيقى.
والموسيقى قديمة قِدَم الإِنسان: بين أَحدث الـمُكتشفات أَنّ الإِنسان النِـيانْدِرْتاليّ (منذ نحو 80 أَلف سنة) كان يعزف على الناي، وأَنَّ في دماغِ كلّ مولودٍ حيِّزاً ذا أَعصاب خاصة بالموسيقى يدعى “الدماغ الموسيقي”. وفي استقصاء أَجرته مجلة “الطبيعة” سنة 1999 أَنّ طلاباً في جامعة كاليفورنيا تَحَسَّن أَداؤُهم في الامتحان بعد 20 دقيقة من سماعهم مقطوعةً لـموزار، ما أَشار إِلى أَنّ “الدماغ الموسيقي” لديهم تَحرَّكَ فساعدهم على التفكير للإِجابة عن أَسئِلة الامتحان.
هذه المعلومات، وكثيرةٌ سواها، تَنقُضُ مفهوماً سائداً عند الكثيرين بأَن الموسيقى يمكن الاستغناءُ عنها وليست ذات منفعة أَساسية في الحياة اليومية. هؤلاء يجهلون دورَ الموسيقى في تمتين التماسُك بين الجماعات البشرية، كما تشير إِلى ذلك مجموعةُ أَمثلةٍ تعطيها إِيزابيل ﭘـيريتْزْ: النشيد الوطني في إنشادِه الجماعيّ يوحِّد المواطنين على رسالته الواحدة، الغناء الكورالي يُـمتِّن وحدة الجماعة، لكلّ جيل شابٍّ جديدٍ موجتُه الموسيقيةُ، لا احتفالات دينية جماعية من دون موسيقى تَجْمَع الـمُؤْمنين الـمُحتفلين.
الموسيقى إِذاً جامعة: ليست لغةَ تواصل بل عنصرُ وصْل. ومن هذا الوصْل الدائِم أَنّ الموسيقى الكلاسيكية الخالدة، كما الموسيقى التقليدية الشعبية، تَجمَع الجماعات البشرية في كلّ العالم حول مقطوعةٍ واحدةٍ ذاتِ لغةٍ كَونيةٍ تستقطبُ ذوقاً جماعياً وفردياً معاً، ما لا تستطيعه القصيدةُ في لغتها أَو المسرحيةُ في لغتها.
من هنا أَنّ الموسيقى ليست مُـجرَّدَ متعةٍ للعقل بل حاجةٌ بيولوجية للانتماء. فالإِنسان، في طبيعته الأُولى، كائنٌ اجتماعيٌّ يتمتّع بــ”الدماغ الموسيقي” المولود معه جزءاً من دماغه العام ذي آلاف الأَعصاب المتعدِّدة الوظائف. وهذا “الدماغ الموسيقي” وسيطٌ توحيديٌّ تنامى مع العصور عنصراً انتمائياً اتّخذ أَشكالاً مختلفةً جيلاً بعد جيل، وهو الذي، مع كلّ جيلٍ جديد، يوحِّد أَبناء عصره على اقتبال الموسيقى تَلَقِّياً انتمائياً، وإِن ليس يُعطى عنصراً إِبداعياً إِلاّ للأَصفياء من الـموهوبين.