إِنها “أَولُ مدينةٍ تواصلَت فيها السُكنى بدون انقطاعٍ منذ نحو سبعة آلاف سنة، فهي بهذا المعنى أَقدمُ مدُن العالَم” (إِرنسْت رينان في كتابه “بعثة إِلى فينيقيا”-1864).
“كانت هذه المدينةُ أَهَم مركزٍ تجاري في العهود السحيقة، فيها اجتَمَعَت الأَساطير والشعائر الدينية القديمة، وفيها تلاقَت التفاعلات في الفن والسياسة” (أَلكسندر مورِيْه في كتابه “تاريخ الشرق” -1930).
بهاتَين الإِطلالتَين صدَّر جميل جبر كتابه “جبيل في التاريخ” الصادر سنة 2001 في 192صفحة قطعاً وسطاً، على غلافِه صورةُ مرفإِ جبيل أَحدِ أَقدم مرافئِ الأَرض قاطبةً، وفي ثنايا نصوصِه مجموعةُ صُوَرٍ توثيقيةٍ من وزارة السياحة.
يَعتبر المؤَلّف كتابه “فعل إيمانٍ بلبنانَ موطنِ الإِنسان الأَوّل”، وفعلَ وفاءٍ لـــ”بيبلوس أُمِّ الأَبجدية التي هي أَهمُّ إِبداعٍ حضاري في تاريخ البشرية”، كما وصفَها فيليپ حتّي في كتابه “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين” وزاد أَنّ “أَبجدية بيبلوس أَعظمُ منحةٍ أَنعَمَت بها على العالم الحضارةُ الفينيقية”.
ويوضحُ جميل جبر أَنّ “أَريحا ليست، كما يقال، أَقدمَ مدينةٍ مأْهولة في العالم، فهي أَقفرَت من سكّانها قروناً طويلةً منذ دَمَّرَ أَسوارَها يشوع بن نون في القرن الرابع قبل الميلاد”، بينما جبيل “رغم الغزوات التي اجتاحَتْها لم تُقْفِر من سكانها وظلَّت مأْهولة بدون انقطاع”.
فصولُ الكتاب قصيرةٌ سلِسَة، غيرُ معقدّةٍ بأَسماءَ وتواريخَ ووقائع، كأَنما جميل جبر لم يَشَأْهُ كتاباً تاريخياً تأْريخياً بل ومَضاتٍ مُوَثَّقَةً بهوامشَ وحَواشٍ وملاحظاتٍ، تُلْقي برقاً على ليل التاريخ لتضيْءَ منه لُمَعاً يواصِلُ بحثَه عنها مَن شاء التعمُّقَ أَكثر.
هكذا وضع المؤَلف جبيل في إِطارها التاريخي والجغرافي: موقعاً ومرفَأً وحضوراً بين مدُن الجوار الفينيقية ودوَل الجوار مِصراً وما بين الرافدين، وكواكبَ آثارٍ راكَمَها التاريخُ باقيةٍ على أَرضنا شموسَ شواهدَ وشهادات.
في هذا السياق غاص المؤَلّف على مسيرة جبيل منذ ما قبل التاريخ الجليّ حتى التاريخ الـمُدَوّن، ببيوتها الحجرية الأُولى، وبدايات عُمرانها، حتى تصدير خشب الأَرز من مرفإِها، فبروزِها عاصمةً دينيةً بآلِـهَتها وهياكلها ومعابدها ومِسَلاّتها وطقوس الأَدونيات على مشارفها، وريادةِ ملاحيها الجبيليين إِلى بحار العالم، والتجارةِ مع مصر، وتنظيمِ المجتمع الجبيلي الـمُشِعِّ على الـمُدُن الفينيقية، وناووسِ أَحيرام وعليه أَقدمُ أَبجديةٍ ناطقةٍ في العالم و”أَهمُّ حدَث ثقافي في التاريخ” كما يؤَكِّد رينه دوسو، حتى ورودِ مجدِ جبيل في رسائل تل العمارنة من سنة 380 قبل الميلاد، والـمُكتشَفَة سنة 1887.
ويواصلُ المؤَلف رحلة التاريخ عن جبيل في العهد الفارسي فالإِغريقي فالروماني فالبيزنطي فالعربي فالصليبي فالمملوكي وصولاً إِلى العهد العثماني فالحقْبَتَين الـمَعنية والشهابية، فالعصرِ الحديث وتطوُّر جبيل إلى الحضور العصري واستضافتِها “المركز الدّولي لعلوم الإِنسان” بقرار منظمة الأُونسكو سنة 1970.
ختاماً: أَصابَ جميل جبر بإِغلاق كتابه “جبيل في التاريخ” على القول الشهير لِــمِـتـِـرنيخ: “لبنانُ بلَدٌ صغيرٌ لكنه عظيمُ الأَهمية”.
ولا شك أَنّ مِـتـِـرنيخ ، في قوله هذا، كان يُضْمِرُ ما يَعرفُ عن جبيل من إِشعاعٍ يَزِينُ جَبِينَ تاريخِ الحضارة.