دخولُنا هذا الأُسبوع الفترةَ الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، يأْخُذُنا إِلى لبنانيٍّ كبيرٍ أُوكِل إِليه وَضْعُ مسوَّدة الدستور سنة 1926، فوضعَها من خلال إِيمانه بلبنانَ الخالد في نَصٍّ أَلزم رئيس الجمهورية المنتخب أَن يُقْسِم يمين الولاء لـ”الأُمَّة اللبنانية” قائلاً: “أَحلُف بالله العظيم أَن أَحترمَ دستور الأُمّة اللبنانية وقوانينَها وأَحفَظَ استقلالَ الوطن اللبناني وسلامةَ أَراضيه”.
إِنه ميشال شيحا الذي أَصدر عنه قبل أَيام الباحثُ في الفكر الديني والجيو سياسي الدكتور نبيل خليفة كتاب: “ميشال شيحا: أَوّل أَنبياء لبنان وآخر أَنبياء فلسطين“، في 144 صفحة حجماً وسطاً عن منشورات “مركز بيبلوس للدراسات”.
الكتاب من قسمين: “أَوّل أَنبياء لبنان” وفيه بحث عن شيحا رائد الخصوصية اللبنانية بنظرته إِلى لبنان بُعداً جيوسياسياً وبُعداً اقتصادياً ليبرالياً، والقسم الآخر “آخر أَنبياء فلسطين” وفيه نظرة شيحا إِلى القضية الفلسطينية وتنبيهُه إِلى الخطر الصهيوني لا على فلسطين وحسب بل على كلّ الجوار، منطلِقاً من فكرة أَنّ “إِسرائيل لا تريدنا مسلّحين بل ضعفاء في كل شيء، بدون سلاح ولا حلفاء، ومحكومين بأَسوإِ الساسة”.
أَهمية هذا الكتاب إِبرازُه الأَفكارَ الرؤيوية الرائدة لميشال شيحا الذي قَبْل أَكثرَ من نصف قرنٍ رأَى ما يعيشُه اليوم لبنان، كما في قوله: “لبنان مَـحَـطُّ أَطماع الخارج بسبب مُـميِّزاته الستراتيجية، ومصدرُ خطرٍ على أَبنائه لأَنهم حَرَسُ هذا الممر التاريخي للشعوب. إِننا نعيش على حدود الخطر الدائم”.
أَو كما في حَدْسه: “بين التهجير إِلى لبنان والهجرة من لبنان حركتان متناقضتان محكومتان بأَن يكون لبنانُ الأَرضَ الموعودة للأَقيات المضطهدة، وأَن يكون اللبنانيون مدعوّين لإِنقاذ الحرية والاحتفاظ بها ملجأً ضد الفئوية السلطوية الظالمة، ومدعوين لإِنشاء دولةٍ واحدةٍ موحَّدَةٍ ذاتِ فكرةٍ وطنيةٍ لبنانيةٍ أَولاً. إِنّ وضع لبنان بأَقلياته الطائفية يفرض عليه ضرورةَ قيام ﭘـرلُـمانٍ يكون مكان اللقاء والحوار بين أَقَلّيّاته لضبط الحياة السياسية”.
ومن أَبرز مقولات ميشال شيحا: “تعدُّد الطوائف في لبنان ليس علامةَ تأَخُّر بل هو وضْعٌ مُـميَّزٌ، فليس في العالم دولة ذات تعددية طوائفية مثل لبنان. إِذا لم تتمثل الطوائف بسياسيّيها تمثَّلت برجال دينها، وإِذا طغَت طائفةٌ على سواها هدَّدت وجود الدولة. يجب أَن تشعُر كلُّ طائفة بأَنّ عليها واجباً تجاه المجموعة فتتنازلَ عما تعتبره حقّاً حصرياً لها وتعوِّضَه بما يأْتيها من المجموعة”.
هكذا، فصلاً بعد فصلٍ في هذا الكتاب، رسَمَ نبيل خليفة صورةً للبنان ميشال شيحا جديرةً بأَن يكتشفَها جيلُ لبنان الجديدُ الضائعُ في آنياتٍ زائلة، كي يعرف أَن وطنه ليس أَرضاً ولا حدوداً وعددَ سكان، بل هو شعبٌ خلاَّقٌ منذ أَول التاريخ.
وبهذا الإِيمان يتَّخذُ بُعدَهُ قولُ ميشال شيحا: “لبنان بلدٌ صغيرٌ جداً، وأُمةٌ صغيرة، لكنه حتماً… ليس ذا شعبٍ صغير”.