“إِلى الآلاف من شَعبنا الأَبيّ، وإلى تلك الجموع المناضلة احتشَدَت أَمام منزلي في برج أَبي حيدر تَستنكر اعتقالَ رجالِ الاستقلال في راشيا، ومعاً زحفْنا إِلى البسطة الفوقا غير آبِهين ببنادق الجنود السنغاليين المُوَجَّهة إِلى صُدُورنا، وأَكملْنا سَيرنا إِلى منزل رياض الصلح في رأْس النبع، وواصلْنا مسيرة العزّة والكرامة إِلى مَقرّ المجلس النيابي في ساحة النجمة، فخلَعْنا العلَم القديم وزرَعْنا مكانه علَم الاستقلال الذي يحملُه كلُّ واحدٍ منا وشْماً عميقاً في قلبه“.
بهذه الكلمات النبيلة افتتح الرئيس سامي الصلح كتابَه “لبنان: العبثُ السياسيّ والـمصيرُ الـمجهول” الصادرَ طبعةً ثانية سنة 2004 عن “دار النهار” في 844 صفحةً زاخرةً بالأَخبار والوقائع والوثائق والصُّوَر عن حقْبةٍ متوهِّجةٍ من لبنان الحديث.
أَهمية هذا الكتاب أَنه مذكِراتُ مسؤُول كبير كان له حُضورٌ ساطعٌ في المشهد السياسي اللبناني نائباً ورئيس ستّ حكومات ضمَّت كبار اللبنانيين انضموا جميعاً يداً واحدةً لنهضة لبنان الواحد الموحَّد شعباً وحكومةً وحُكْماً قوياً.
الكتابُ تنسيقُ أَوراقٍ مخطوطة بقلم سامي الصلح “بابا سامي” أُضيفت إِليها معلوماتٌ لاحقةٌ ووثائِـقُ جديدةٌ وصوَرٌ من سنواته الزاخرة منذ ولادته سنة 1887 حتى غيابه سنة 1968، لتشكِّل هذا المرجِع في عشْرة فصولٍ مكثَّفة تسرد سيرته ومسيرته عبر مراحل مر بها لبنان: من العصر العثماني حتى زمن الانتداب فالصراع من أَجل الاستقلال فعهد الاستقلال فكارثة تقسيم فلسطين فتتالي الأَزمات على لبنان داخلياً بين انقلابات وأَحلاف وشؤُون داخلية فالعدوان الثلاثي فحوادث 1958 حتى سؤاله الشهير: “لبنان إلى أَين؟”.
هكذا وَسَم سامي الصلح مرحلةَ لبنان الحديثة منذ تشكيله حكومتَه الأُولى في 27 تموز 1942 بتكليف من الرئيس أَلفرد نقاش، سمِّيَت يومها “حكومة الرغيف” وقيل في رئيسها إِنه “أَبو الفقير”. وبعد أَيامٍ استقبل الجنرال ديغول خلال زيارته لبنانَ في آب 1942. لكنّ هلّو، ممثل فرنسا، أَقنع الجنرال سـﭙـيرس بإِقالة تلك الحكومة وتعيين أَيوب تابت رئيساً جديداً للدولة، سرعان ما أُقيلَ ليُعيَّن مكانه ﭘـترو طراد.
ووصل بشارة الخوري إِلى رئاسة الجمهورية فَـعـيَّن رياض الصلح رئيساً للحكومة، وبعده كلَّف سامي الصلح فشكَّل حكومته الثانية في 22 آب 1945 من حميد فرنجية وأَحمد الأَسعد وإِميل لحود وسعدي المنلا وآخرين. وتوالى تكليفُه تشكيلَ الحكومة ستَّ مراتٍ، أَخيرتُها على عهد كميل شمعون سنة 1956، عَيَّن فيها اللواء فؤَاد شهاب وزيراً للدفاع، شارل مالك وزيراً للخارجية، نصري معلوف وزيراً للمالية، الأَمير مجيد أَرسلان وزيراً للصحة، وآخرين، فعمِلَت الحكومة متضامنةً تَـجْبَهُ أَحداثاً واضطراباتٍ أَدَّت إِلى حوادث 1958.
يَطول الحديث عن هذا الكتاب، ويَعْذُبُ في الاطِّلاع على مراحلَ من تاريخنا الحديث قد تكون أَحداثُ لبنانَ اليومَ ارتداداتٍ لها ولو في شكل غيرِ مباشِر.
ويبقى أَنّ لبنان في جميع مراحل تاريخه كان يَحظى برجال دولةٍ يعمَلون في خدمة الدولة ولا يَجعلون الدولة في خدمتهم.
كانوا حقاً رجالَ دولة، بين أَبرز أَعلامهم لبنانـيَّـةً: الرئيس سامي الصلح.