صحيحٌ أَنّ فيليپ عرقتنجي حقَّق فيلمه الجديد “ميراث” أُوتوبيوغرافيّاً شخصياً، لكنه لامَـسَ به آلافَ عائلات لبنانية واجهَتْ، ولا تَزالُ تُواجِه، المصيرَ الذي عنوانُه الـمُلَطَّف: الهجرة، وعنوانُه الـمُرّ: التهجير، وعنوانُه القاصِم: الهجران في بلاد الآخرين.
وصحيحٌ أَنه يروي فيه، كاتباً ومخرجاً، اضطرارَه ستّ مرّات إِلى الرحيل في الباخرة – وحدَه أَو بأَولاده – هرباً من الحرب في لبنان (تماماً كما هرَبَت جدَّتُه في الباخرة من تركيا سنة 1920 بسبب التهجير الفاجع، وتماماً كما كان والدُ جَدَّتِه هرَبَ من لبنان سنة 1860 بسبب الأَحداث الفاجعة) لكنّ هذه التهجيراتِ الـمُتَـتاليةَ، الـمُشرِّدَةَ الشعبَ اللبناني، عاشتْها عائلاتٌ كثيرةٌ من لبنان كلّما اشتعَلَت فيه حربٌ تُشَتِّتُهم داخلياً أَو بَعيداً بَعيداً على متن باخرةٍ ترسو في مرفإٍ آمنٍ، أَو متنِ طائرةٍ تَحطُّ في مطارٍ أَمين.
كأَنّما قَدَرُه، هذا الوطنُ المصلوبُ أَيقونةً مغايِـرَةً على صدر الشرق، أَن يُـهاجمَه الخطَرُ كلَّ رفةِ عينٍ من الزمان فيرِفَّ الغرابُ فوقَ أَرضه الـمُشَقَّقَةِ بالـمُعَذَّبين، ويتشظَّى أَهلُه إِلى بلدان الناس: هاربين، مُهاجرين، مُهجَّرين، أَو لاجئين في مُوَقَّتٍ يَتَمَطَّى سَنواتٍ، حتى لـينتهي العمرُ ولا ينتهي أَمَلُ الرجوعِ الـمشدودُ بِـحنينٍ إلى زاويةٍ في بيتٍ عتيقٍ، قد يكونُ انهدَمَ بقذيفةٍ، أَو زال عن الأَرض بِـجَرّافةٍ أَطاحت الأَرضَ والذكريات.
وإِذا كان من التباهي القولُ إِنّ اللبنانيين في العالم أَضعافُ أَهلِه على أَرضه، فبعضُ هذه “الساغا” اللبنانية مَنسوجٌ بدُموعِ القهر وحُرقةِ الغيَاب ومرارةِ الهجرة التي سبَّبتْ تَفَسُّخَ العائلة بين الـ”هُنا” والـ”هُناك”، وارتحالَ الأَبناء إِلى سجونٍ كبرى تدعى مُغتَرَبات ويُدعَوْن فيها “مغترِبين”، غير أَنّ في حنايا اغترابهم حَناناً يتمنّى كلّ يومٍ أَن يَعود إِلى السجن الأَصغر في حضن الأَرض الأُمّ الحاضنةِ الوطنَ ولو مُـحاصَراً بالخطَر اليوميّ. وهذا ما يَبْزُغُ مع كلّ نجاحِ لبنانـيٍّ يَبرَعُ في العالم، ويُهدي نجاحَه إِلى عريشةٍ خَيِّرَةٍ يلْبَسُها على رأْسه بيتٌ فيه أُمٌّ تنتظرُ إِطلالةَ الغائب، أَو جَدَّةٌ تُؤَجِّل مَوتَها كي تُعانقَ حَفيداً كَبُرَ على يَدَيها وسَرَقَهُ مِن يدَيها غُولُ الحرب.
“ميراث” عَنْوَنَ فيليپ عرقتنجي فيلمَه الجديد. وهو فعلياً ميراثُ كلِّ بيتٍ لبنانـيٍّ فيه عينٌ على ساكنِيه، والعينُ الأُخرى على غِيَّابٍ في مَهْجَرٍ هاجِرٍ مُهَجَّرٍ مُهَجِّرٍ. كأَنما ذاكرةُ لبنان، في كلّ عَصرٍ وحِقْبَةٍ وزَمَن، مرصودةٌ على الغِيَاب أَكثر مما على الإِقامة، وكأَنما بعضُ تاريخِ هذا الوطن أَن يَتَذَكَّرَ الـمستقبل قبل أَن يَنسى ماضياً مكتوباً على مقدِّمةِ باخرةٍ تُغادرُ مرفأَ بيروت، أَو على جناح طائرةٍ تَبْعُدُ وتُبَاعد، هَرَباً من أَرض الوطنِ الـمُحتَرِقة بِـحَربٍ تَتَكَرَّرُ كُلَّ فاصلةٍ من عُمرٍ يَـمضي بين الحَنين والحَنان، ويُشَقِّقُ الـمَسافةَ بين شاطئِ بيروت وأَيِّ شاطئٍ غريبٍ في وطنٍ غريبٍ يكتُبُ من جديدٍ “ساغا” لبنانيةً جديدة.