*كنت رئيساً للقسم الثقافي في مجلة “الصياد”، ثم انتقلت إلى مجلة “الحوادث” رئيساً للقسم الثقافي. لماذا تركت رئاسة القسم الثقافي فيها وتفرغت للكتابة في جريدة “النهار”، وعندك زاويتان أسبوعيتان؟؟
بدأت حياتي الثقافية في جريدة “النهار” عام 1974، يعني من 40 عاماً. ثم أتيح لي أن أتولى القسم الثقافي في مجلة “الصياد” فتركت “النهار” لفترة وانتقلت إلى “الصياد” عام 1975. وفي نهاية عام 1975 أُتيح لي أن أنتقل إلى مجلة “الحوادث” رئيساً للقسم الثقافي. بدأت عملي فيها مع سليم اللوزي وفريق “الحوادث”. بقيت 4 سنوات ولكن خلال ذلك الوقت لم أنقطع عن الكتابة في الجريدة الأم “النهار” باسم مستعار، إلى أن اغتيل سليم اللوزي وأصبح العمل في “الحوادث” شبه متعذّر عليّ لأنها انتقلت إلى لندن. في هذه الأثناء أسّس جبران تويني مجلة “النهار العربي والدولي”، فتركت “الحوادث” وانتقلت إلى كتابة مقالات أسبوعية في “النهار العربي والدولي” وأيضاً في “النهار”. ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة عام 1988 وبقيت أكتب من هناك صفحة أسبوعية بعنوان “مفكرة للسلم في زمن الحرب”، إضافة إلى مقالات أخرى في “النهار العربي والدولي”. ولم أترك جريدة “النهار”، وما زلت حتى الآن أكتب مقالة صباح كل سبت في زاويتي “أزرار”.
* لماذا لم تستلم رئاسة القسم الثقافي في “النهار”؟
كان رئيس القسم الثقافي الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا، ولم يكن مجال لأستلم هذا القسم الـمُدار من أديب عريق وصحافي كبير. طبعاً تغير القسم الثقافي في “النهار” من مسؤول إلى مسؤول، وكنت أنا في ارتباطات أخرى لا تسمح لي أن أتفرغ لإدارة القسم الثقافي في أي جريدة أو أي مجلة. عملي الآخر يأخذ كل وقتي تقريباً. بعدما عدت من الولايات المتحدة واستقريت في بيروت نهائياً، بدأت عملي في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، والجامعة الأميركية للعلوم وتكنولوجيا (AUST)، وأتولى رئاسة تحرير “أجنحة الأرز” الصادرة عن شركة الطيران الشرق الأوسط، إضافة إلى تعليقين أسبوعيين في إذاعة “صوت لبنان”: “نقطة الحرف” يوم الأربعاء، و”حرف من كتاب” صباح كل أحد. مع كل هذه الإنشغالات لا أستطيع أن أدير قسماً ثقافياً في أي جريدة أو مجلة.
*كان عندك مجلة شعرية “الأوديسيه”، وتوقَّفت عن إصدارها. لماذا؟
“الأوديسيه” أسستها عام 1982 وأصدرتها جريدة شهرية حتى 1984. أوقفتها وسافرت إلى الولايات المتحدة، وبعد عودتي عام 1994 أصدرتها من جديد فصلية تنشر الشعر ودراسات عن الشعر. صدرت عاماً كاملاً ثم أوقفتُها لعجز مالي لأن مردود المجلة لم يكن ممكناً أن يسد نفقاتها ولا أريد أن أمد يدي إلى أحد حتى أصدرها. ليس للشعر دعم مادي في لبنان وليس له جمهوره الواسع. الجمهور منصرف إلى أنواع أدبية أخرى. ربما الرواية ذات رواج أوسع من الشعر حتى لو كان الشاعر معروفاً ومشهوراً وصاحب جمهور عريق. منذ يومين كنت أقرأ في إحدى الدراسات أن نزار قباني لم يعد رائجاً كما كان من قبل. تغيَّر العصر، تغير القراء. أصبحوا يلهفون إلى الشاشة الصغيرة وإلانترنت ووسائل التواصل الإجتماعي. كل هذا أبعد الناس عن اقتناء دواوين الشعر بدليل أن معظم مؤلفاتي غير الشعرية رائجة في الأسواق أكثر من دواويني الشعرية. لا يمكن أن نقول إن الشعر يموت. الشعر لا يموت. هو باق ولكن يجب أن نعرف كيف نوصل هذا الشعر إلى القراء، ويكون جميلاً فيه الحرارة وليس فيه الغموض أو تعقيدات تنفّر القراء منه.
* أمضيت أعواماً تجمع وثائق ورسائل وصوراً وشهادات وأنجزت كتاباً عن الياس أبو شبكة، لماذا اخترت الياس أبو شبكة؟ وما يميز هذا الشاعر عن غيره؟
كتابي عن الياس أبو شبكة هو الرابع من سلسلة كتب أصدرتها عن سيَر الأدباء والمبدعين في لبنان. الكتاب الأول “طريق النحل”، سيرة الأخوين عاصي ومنصور الرحباني منذ ولادتهما حتى غياب عاصي، الكتاب الثاني “جبران شواهد الناس والأمكنة” حصيلة كتاباتي ومقالاتي وأبحاثي واكتشافاتي عن جبران منذ كنت في الولايات المتحدة حتى عودتي إلى لبنان، كتابي الثالث “سعيد عقل إن حكى”، مجموعة لقاءات أجريتها مع الشاعر سعيد عقل، والكتاب الرابع الياس أبو شبكة “من الذكرى إلى الذاكرة” مجموعة كتاباتي عن الياس أبو شبكة منذ 40 سنة في “النهار” وسواها في مناسبات غيابه أو شاركت مهرجانات عنه أو نظّمت مهرجانات له. دونتُ هذه الكتابات وأحاديث ولقاءات مع من عرفوه، إما في ضيعته زوق مكايل وإما من أدباء وشعراء عاصروه ولا يزالوا أحياء، جمعتها في هذا الكتاب الجميل الذي قد يكون بين الأفضل والأكثر توثيقاً عما كتب عن الياس أبو شبكة الذي أحب حياته وأحب شعره، وله قصة في مطلع طفولتي هي التي جعلتني أنجذب إلى هذا الشاعر. كنت في طفولتي أمضي أيام الصيف عند جدي وجدتي في الضيعة، وكان جدي يأنس إلى كتاباتي وكانت بدائية كأي ولد يكتب موضوع إنشاء. ذات ليلة قال لي جدي: “إقرأ ماذا كتبت اليوم”. يومها كنت كتبت موضوع إنشاء لوصف فصل الربيع. أعجب جدي هذا الموضوع وهو طبعاً بدائي لا قيمة له، ولكن أعجب جدي بهذا الحفيد، وجدي شبه أمي ومهما كتبت سيراه جميلاً. عندما انتهيت من قراءة الموضوع سمعت جدتي تقول له: “لم أفهم شيئاً مما قاله الصبي. أخاف أن يكبر غداً ويصبح مثل هذا المجنون الذي كان عندنا في الضيعة”. نمت تلك الليلة وأنا أفكر لماذا جدتي شبهتني بهذا المجنون ومن تراه يكون؟ صباح اليوم التالي سألت جدتي عنه فقالت لي: “مجنون عندنا في الضيعة يكتب الشعر ويؤلف الكتب إسمه الياس بو شبكة”.لم أكن أعرف هذا الإسم قبلاً. عندما انتهى فصل الصيف عدت إلى بيتنا في الساحل وسألت والدي أن يشتري لي كتب الياس أبو شبكة. اشتراها لي. رحتُ أقرأ فيها ولا أفهم. كنت ابن عشر سنوات. ثم تسنى لي أن أتطلع على مسيرة حياته فأحببتُها. وكان قريباً مني، فأنا في صربا وهو في زوق مكايل. كنت أذهب عند عمتي في زوق مكايل، وأمرّ قرب بيته ويكبر في بالي. كان في بالي سحر لهذا الشاعر. كبرت أكثر وفهمتُ شعره وحياته أكثر، وبدأت أكتب عنه حتى كانت حصيلة هذا الكتاب. أنا مدين بحياتي الأدبية لهذا الشاعر الذي أيقظَتْهُ جدتي في بالي من ليالي طفولتي.
*كتبت مقالة بعنوان “يسوع كما يراه مسلم”، ذكرت فيها:
هل الله الذي يبشر به الكاهن ذو الجبة غير الذي يبشر به الشيخ ذو العمامة؟
وهل مريم ويسوع في الإنجيل غير مريم وعيس في القرآن؟
إذا كانت مريم هي نفسها في الأنجيل والقرآن وعيسى هو نفسه في الأنجيل والقرآن؟
على ماذا إذن يختلف المسلمون والمسيحيون؟
الله واحد. هذا يقول “بسم الله الرحمن الرحيم”، وهذا يقول “باسم الآب والابن والروح القدس”. هذا يقول “لا إله إلا الله” وهذا يقول “أنا هو الرب إلهك لا يكن إله غيري”. لماذا هذا الخلاف الدموي بين بعض المسلمين وبعض المسيحين طالما الله واحد. في هذا المقال أثور ضد الطائفية، ضد المذهبية، ضد الاختلاف في الأديان. أنا لا أؤمن بصراع الأديان والحضارات بل بالحوار بين الأديان والحضارات. لذلك أحترم جداً من يَعمل على موضوع الحوار بين الأديان طالما أنها جميعها تعلو نحو قمة واحدة إلى الله، تختلف الطرق والأساليب والعبادات والطقوس لكنها ترتقي في النهاية إلى إله واحد ووحيد. لذلك أنا أثور ضد الخلافات الدينية: الكاهن في الكنيسة يبشر بهذا الإله والشيخ في الجامع يبشر بهذا الإله. إذاً علامَ الاختلاف؟؟!! هذا ما أردته من هذا المقال المحوري الذي تلقيت عليه ردوداً كثيراً مهنئة ومباركة ومشجعة. هكذا يجب أن نعمل. ميزة لبنان أن فيه المئذنة والكنيسة، فيه المعبد والجامع، هذه ميزة لبنان التي يحاول بعض السياسيين أن يتجاهلوها ويدمروها ويدمروا بها هوية لبنان. أحد أسباب نجاح الثورة الفرنسية أنها وضعت رجل الدين في كنيسته وديره ومعبده، وقالت له: عملك مع الدين ومع الله. وهذا الآخر عمله في السياسة ومع الدولة. فصَلَت الدين عن الدولة. هذه هي العلمانية المتطورة. فلماذا لا يكون لبنان هذا البلد المثالي الذي عند الحكْم يعمل في السياسة، وعند الدين يعمل في الكنيسة أو في المسجد. نحن طائفيون. عندما تلغى هذه الطائفية السياسية تبدأ الدولة الحقيقية بالولادة في لبنان. دين الدولة هو الشعب. كيف نخدم الشعب؟ أنا مع كل ما هو علماني، وأنا مع كل ما هو ديني في مقره ومركزه الديني، لا في الشارع وليس في الحكم وليس في إدارة البلاد.
* أنت من القلائل الذين وافق سعيد عقل على إجراء مقابلات معهم، لماذا؟
أجريت مع سعيد عقل حوارات في نحو 50 ساعة. السبب علاقتي به. صداقتي معه قديمة تعود إلى السبعينات حين كنت لا أزال حديث العهد في الأدب وفي الصحافة. تعرفت عليه وكنت أتردد على مكتبه. وكانت بيننا ثقة متبادلة. كان يحب شعري ويشجعني دائماً على الكتابة. وعندما طلبت منه أن أجري هذه الحوارات حول سيرته الذاتية وافق لثقته بي أو لإيمانه بي. نشرتُ هذه اللقاءات في مجلة “الوسط” في لندن ثم جمعتها لاحقاً في كتاب “سعيد عقل إن حكى”.
* ما رأي هنري زغيب في الحالة الشعرية لبنانياً وعربياً؟
الشعر دائماً بخير. مَن ليس بخير هم الشعراء. إذا لم أحسن أن أوصلك إلى شعري أو أن أوصل شعري إلى القارئ فأنا المسؤول وليس القارئ. بمعنى آخر علي أن أكتب شعراً يفهمه القراء. عندها يُقبلون عليه. أما عندما أكتب لهم في الشعر ألغازاً وشِعراً غريباً وغامضاً، ينصرفون عن الشعر وعن الشاعر. بهذه الطريقة يفشل الشعراء.