أَزرار- الحلقة 835
كي يطولَ نابضاً عمرُ غيابهم (2/2)
السبت 15 آذار 2014

 

        هل يكفي المبدعَ لتخليدِه اهتمامُ أَهله أَو دولته بعد غيابه؟ يقيناً لا.

          وحدَه نتاجُه يَكفَلُ خلودَه إِن كان جديراً بالخلود. لا كرنــﭭـالاتُ التكريم تُنقذُه من النسيان، ولا مبادرات دولته التي تتكرّم هي بتكريمه، ولا تمثالٌ له في شارع قد يحمل اسمه. التماثيلُ لا تُـخلِّدُه ولا الشوارع إِن لم يكن يستحقّ البقاءَ نتاجُه ولو لم يسطع وهو حيّ.

          ﭬـنسان ﭬـان غوخ لم يَــبِـــع طيلة حياته إِلاّ لوحةً واحدة: “الكروم الحمراء في مونماجور” اشترتْها السيّدة آنّا بُوخ قبل ثلاثة أَشهر على انتحاره (29 تموز 1890) وهي اليوم من أَثمن لوحات متحف ﭘـوشكين في موسكو. ولا عجبَ أَن يقضي منبوذاً مقهوراً ولم يُكمِل ربيعَه السابع والثلاثين، هو الذي وضعَ نحو 900 لوحة و1000 رسم لم يستطع أَن يـبـيـع منها سوى تلك اللوحة الوحيدة.

          وهذا موزار انطفأَ في ربيعه السابع والثلاثين (5 كانون الأَول 1791) مقهوراً مهجوراً مرميَّ الجثمان في حفْرة عامة، تاركاً 626 عملاً تأَرجحَت على حياته بين بعض نجاحٍ وكثيرِ فشَل.

          اليوم: ﭬـان غوخ في طليعة عصره بين أَشهر الرسامين العالميين، وأَعمالُ موزار بين الأَكثر عزفاً في العالم. والمتاحف والمؤَسسات والمواقع على اسْـمَيهما ليست تَخليداً عاطفياً لهما بل تكريمٌ لأَعمالهما قممَ إِبداعٍ عالـميٍّ في جميع العصور.

          وكذا الأَمر في “كرمة ابن هانئ” بيت أَحمد شوقي الذي تَحوَّل مُتحفاً، أَو في “الرامَتَان” بيت طه حسين الذي تَحوَّل متحفاً، لا مجرّدَ بادرةٍ وطنيةٍ من الدولة المصرية لشهرتهما في حياتهما بل تكريماً لأَثر نتاجهِما على الأَدب العربي في هذا العصر.

          القاعدة إِذاً في قيمةِ النتاج أَيّاً تكُن سيرةُ المبدع: بالغاً في حياته ذُروة الشهرة أَو مُهَمَّشاً غيرَ ذي سطوع.

          نتاجُه يَضمَن خُلُودَه بعد غيابه ولو أَحياناً بعد مرور عُصورٍ طويلة على غيابه.

          هكذا تَفتَح خلودَه على الزمان لوحاتُهُ أَو منحوتاتُه تعرضُها متاحفُ دائمة، مؤلفاتُهُ تطبَعُها دور نشر وتُعيد طباعتَها، موسيقاه تُدْرِجُها أُوركسترات في ريـﭙـرتواراتها، وكذا سائر المبدعين يتوالى بقاءُ إِرثهم في ذكْر الحاضر وذاكرة المستقبل.

          ولنا في جبران مثالٌ حـيٌّ على هذه القاعدة: صحيحٌ أَنه لاقى على حياتِه غيرَ تكريمٍ أَسعَدَهُ قبل أَن يغيب، لكنّ حفلات التكريم اللفظيةَ والـمَدّاحةَ كانت انْطوَت معه بلافظِيها ومَدَّاحيها لو لم يكن نِـتاجُه (و”النبي” على الأَخصّ) جديراً بأَن ينتقلَ من جيلٍ إِلى جيل فتُقبلَ عليه الأَجيال كأَنه نتاجُ عصرها الحاضر.