ما زالت جبيل-بيبلوس التاريخ والحضارة- تستقطب إِليها الأَقلام والريشات رَسْـماً بالكلمات معالِمَها التاريخية والسياحية، وكتابةً باللون والريشة لُـمَحاً من مغَانيها بُيوتاً وقلعةً وميناءً وزوايا تراها عينُ الرسام فتنقُلُها القماشة البيضاء حركةً من ظلال وأَنوار.
في هذا السياق أَفتحُ اليوم كتاب “جبيل… رؤْية فنية” للرسام أَنطوان مطر، صدر عام 2010 في 282 صفحة قطعاً موسوعياً كبيراً، حاملاً بين جناحَيه لوحاتٍ مزهوةً بهويتها الفنية بين مائيات وطبشوريات (ﭘـاستِل) ورُسوم بالحبر الصيني، ونُصوصاً بالعربية والفرنسية والإِنكليزية مصاحِبةً بالكلمات تلاويحَ اللوحات.
مشوارٌ زاهٍ هذا الكتاب يـمرّ على السوق العتيق في جبيل، وعلى مرفإِها التاريخي المعجوق بمراكب الصيّادين والسيّاح، وبيوتٍ يطربشها القرميد الأَحمر بقبَّعات الزمان: هنا صيّاد يُعدُّ شباكه استعداداً لرحلة بحرية في قلب الليل إِلى قلوب السمك، هنا هيبةُ القلعة باسطةٌ أَصداءَ التاريخ على أَصوات الحاضر، هنا شارعٌ ينتظر من يروي له حكايات الأَسوار الناشبة من مفكرة الزمن العريق، هنا زقاقٌ ضيقٌ يتّسع بأَزهار الشرُفات عن جانبيه، هنا قنطرةٌ ختيارة باقٍ على حجارتها همسٌ من حكايا العشاق في صحو ليلة صيف، هنا جرس مار يوحنا مرقس يدعو الناس إِلى الصلاة ويبقى خارج الكنيسة، هنا في السوق خزّاف يُدوّر أُذْن جرة كبيرة لتستقبل زيتوناً أَو عبَق زيت، هنا قشّاش يهندس بخبرته العتيقة كراسي وسلالاً، هنا شُبّاكٌ عرّشت عليه ياسمينة تزهو بعبقها المنشور ظلالاً في فضاء الشارع، هنا المسرح الروماني الصغير ينتحي جانباً فلا يمرّ به إِلاّ قاصدوه، هنا نَسوةٌ يَرْقُقْن الرغيف أَهلَّةً أَهلَّةً لبَسْطها على خـدّ الـتَّــنُّــور، هنا خياطٌ أَمام محله يَدْرُزُ بالإِبرة تفصيلاً لقميص من حرير، هنا درجٌ نعسانُ من ضجر الأَيام المتتالية متشابهةً كأَوراق هذه الشجرة أَمامه، هنا مَندلونٌ مزهرٌ بربيع أَلوان زكيّ العبق، هنا مقهى فاتحٌ طاولاته لدقّ “دوسه دوباره” ومازةٍ يحتسيها الشاربون مع كأْس عرق، …
مشاهدُ مشاهدُ تتتالى في الكتاب، كلُّ مشهد يغوى بما فيه، ويرنو إِلى النص قبالته أَو على الصفحة ذاتها، يروي عن بيبلوس الأَمس مدينةِ الستة آلاف سنة، مدينةِ الحرف الذي انطلق عن شاطئها، والكتابِ الذي حملَت اسمه أَو حمل اسمها، مدينةِ أَول أَبجدية في التاريخ خرجَتْ من ناووس أَحيرام شمساً أَنارت العالم بإِرث فينيقيا.
وتروي النصوص في الكتاب لوحاتٍ من ذاكرة الماضي: هنا بئر الملوك تلةٌ تشرفُ على المدينة، هنا هياكل للآلهة بعل وبعلة وإِله البرق والأدونيات، هنا مسلاّت تحتضن نقوشاً بالحرف الجبيلي، هنا قصرٌ بين الأَعمدة الرومانية للملك أَحيرام وبعده ابنه إِيتو بعل (نهاية الأَلف الثاني قبل الميلاد)، هنا النواويسُ الملكية محفورةٌ جميعها في صخرٍ واحد كبير، … وتمضي النّصوص تمضي حتى الفتح العربي ومجيء الصليبيّين فعهد المماليك فالعثمانيين حتى سقوط الرجل المريض وبزوغ دولة لبنان التي نهضَت معها جبيل مرفأَ صيدٍ وسياحةٍ ومعالـمَ أَثريةً محفوظةً بعنايةٍ ومهرجاناتٍ وأَعياداً، وجميعُها تشكِّل واحة سياحية تاريخية فريدة.
السياحةُ في جبيل ليست رؤيةَ الماء والحجر وحسْب، بل هي أَيضاً رؤْيةٌ فنيّة بالخط واللون رسَـمَتْها ريشةُ أَنطوان مطر كتاباً يروي بالكلمة واللوحة واحةً من لبنان تَخُطّ على خارطة العالم أَقدمَ مدينةٍ في التاريخ لا تزال مسكونةً، وتواصلُ نهضتَها لتعانق الآتي في دفتر الأَيام.