حرف من كتاب- الحلقة 145
“دير مار الياس الراس – مسارٌ وحُضُــور”- الدكتور عبدالله الملاّح
الأَحَـــد 1 كانون الأَوّل 2013

vdl_145

          للمعالم الدينية في لبنان، إِسلاميِّها ومسيحيِّها، أَثـرٌ مباشَر في صياغة تاريخ لبنان. ففي كل مَسجِدٍ فلذةٌ من حقْبة، وفي كل دَيرٍ أَو كنيسةٍ صفحةٌ من سِفْر.

في هذا السياق أَقرأُ اليوم في كتاب “دير مار الياس الراس مسارٌ وحُضُور” للمؤَرخ الدكتور عبدالله الملاّح، صدَر العام الماضي في 384 صفحة قَطْعاً موسوعياً كبيراً، مكتنزاً بوثائقَ ومخطوطاتٍ ومحفوظاتٍ وصُوَرٍ وتأْريخٍ للدير ولأَنشطةٍ حصلَت فيه منذ تأْسيسه قبل ثلاثمئة سنة، وبينَها أَيامٌ مظلمةٌ وحوادثُ مؤْلـمةٌ ومراحلُ صعبةٌ وشائكةٌ من تاريخ لبنان.

موقع الدير عند تلّة مزرعة الراس. يشرف منها غرباً على البحر، جنوباً على وادي نهر الكلب، شرقاً على صنين، وشمالاً على تلال حريصا، وهو في الوسط من مربّع زوق مصبح، زوق مكايل، عينطورة وجعيتا.

في سبعة فصولٍ موسّعةٍ سردَ المؤلِّف مراحل الدير منذ تكريسه غداة المجمع اللبناني في دير اللويزة سنة 1736 وانتقاله إِلى عهدة الرهبانية اللبنانية. وبين نفيس محفوظاته كتاب “ميزان الزمان”: أَول كتاب مطبوع بالحرف العربي في لبنان سنة 1734 على مطبعة عبدالله الزاخر في دير مار يوحنا الخنشارة.

ويذكرُ المؤلِّف فضل الـموفد الـﭭـاتيكاني العلاَّمة يوسف سمعان السمعاني بإِصلاحاتٍ أَدخلها على الحياة الرهبانية أَبرزُها إِنشاءُ أَديارٍ مُـخَصَّصةٍ للراهبات واختيار دير مار الياس الراس مثالاً لها رحَّبت به السلطة الإِقطاعية يومها بزعامة الشيخ أَبو نوفل الخازن، وبات أَولَ دير قانوني للراهبات في الرهبانية اللبنانية. ومن مآثر هذا الدير إِنشاؤُهُ في مجرى نهر الكلب أَولَ طاحونةٍ في المحيط ساهمت في تأْمين الاكتفاء الذاتي زمنَ المعارك والحروب التي توالت على المنطقة.

اشتهر الدير بتطبيق راهباته قوانينَ الرهبنة وفي طليعتِها مثلَّثُ الطاعة والعفة والفقر، وباستقبال الأُخت رفقا الريس (القديسة لاحقاً) سنة 1894. وكان له دورٌ حيويٌّ في مراحل صعبة من تاريخ لبنان فكان يُنتِج المشروبات الروحية ويهتمُّ بالزراعة زيتونةً وكرمةً وحريراً وعسلاً ويوزّع محاصيلها على المحتاجين، ويؤدّي خدمات إِنسانية خلال الأَحداث بتَعَهُّده المرضى وإِيواء اللاجئين وإِطعام الجائعين، وتأْسيس مدرسةً مجانية لتعليم أَولاد العائلات الـمُتواضعة الدخل. ويتميّز هذا الدير بأَنّ له حقاً حبرياً يجعل راهباته خاضعاتٍ مباشرةً للبابا فلا تغيير فيه إِلا بعد موافقة الـﭭـاتيكان، وهذه خصيصة لا تعطى لجميع الأَديار.

هكذا كان تأْسيسُ دير مار الياس الراس نَـموذجاً إِصلاحياً شكَّلَت قوانينُه وفرائضُه انتفاضةً على التقاليد الرهبانية القديمة بفرضه مفاهيمَ دَيرية جديدة.

بهذا التأْريخ الموسَّع الدّقيق لـمَعْلَمٍ دينيّ نابض أَيضاً بالحياة الاجتماعية والوطنية، أَضاف الدكتور عبدالله الملاح إِلى مؤلّفاته التاريخية الرصينة أَثراً جديداً يُضيءُ على حقْبة من تاريخ لبنان كانت تُعَنْوَن بِـمَعالـمَ بعضُها ديني وبعضُها فكريّ، لتُجَسِّد صلابةَ وطنٍ تُزَلْزِلُهُ العواصف الهوج ويبقى صامداً نابضاً في وجه جميع العواصف.