بعيداً عن الكلام الـمَجّاني الذي يَــتكــرَّر بَــبَّــغاوياً عند كُلّ غياب، كيف نقابل غياب وديع الصافي؟
إِذا كان بقاءُ الـمُبدع في الحفاظ على إِرثه، فلهذا الحفْظ قواعدُ علْميةٌ أَكاديميةٌ خارج كلّ عاطفة وانفعال.
وديع الصافي وديعان: الـمُلحّن والـمؤَدّي.
مُلحِّناً: عرفَ حُدود صوته النادر فسكَبَ أَلحانه على نصوصٍ (غالباً متفاوتة شعرياً) وطار بها: من الصعب المفرَد (“لبنان يا قطعة سما”) إِلى الطرَب الأَخّاذ (“حُبي اللي تَرَكْني وراح”، “الليلُ يا ليلى يعاتبني”، …) إِلى الشعبيّ الـمُحبَّب (“عَ اللُومَه”، “بالساحه تلاقينا”، “قالت بتروحلك مشوار”، …) إِلى مئات أَلحانٍ خدَمَت صوتَه وخدَمَ بنصوصِها شعراءَ أُغنية ذاع اسمهم في صوته.
مُؤَدِّياً: بلغ حدَّ الإِعجاز أَداؤُه الذي – بطريقةٍ لا تُجارى وجُودةٍ لا تُخطئ – طالَ أَقصى الأَعلى من الطبقات وأَدنى الأَسفل منها في طواعيّة مذهلة تَجمَع القرار (تحت) إِلى الجواب (فوق) وتـتوهَّجُ فيهما عبقريةُ صوتٍ فريدٍ حمل أَداؤُه أَلحانَ الأَخوين رحباني (“عَ البال يا عصفورة النهرَين”، “الموشَّحات الأَندلسية”، …) وعبدالوهاب (“عندك بحريَّة يا ريس”) وفريد الأَطرش (“على الله تعود”) وزكي ناصيف (“طلّو حبابنا”) والياس الرحباني (“يا قمر الدار”، “قَـتَلُوني عيونا السُّود”) وسواهم، وفي جميعها طبقاتٌ عاصيةٌ طوَّعها أَداؤُهُ بصوتٍ وَسيع وَحَّدَ فيه سِجِلّ طبقاتٍ تحتاج لأَدائها مَـجموعة أَصوات.
الفرادةُ في تَـموُّجات صوته وتـميُّز أَدائه وطواعية أَلحانه، مادةٌ يَجدُر بمعاهد الموسيقى إِدخالُها في مناهجها كي يَدرسَها الطُلاَّب والباحثون ويقيسوا عليها فــيَــتَــبَــيَّــنـوا فواصلَها وتفاصيلَها وانفصالَها عن سائِر الأَصوات، مثلما يُـحلِّلون نوتات المؤَلِّفين الكبار ويَدرُسون كتابتهم الموسيقية بِـــشِـــياتِها وبَراعتِها وتَـمَـيُّـزها عن سواها.
وبدراسة صوته وأَلحانه تَـمُرّ نصوصُ شعراء غنّى لهم (الأَخوين رحباني، أَسعد السبعلي، أَسعد سابا، مارون كرم، يونس الابن، ميشال طراد، مصطفى محمود، نــزار الحر، جوزف أَبي ضاهر، …) فتَدخُل نصوصُهم في الدراسة وتكتمل صورةُ تراثٍ يَحملُه الصوت إِلى الـمُتلقّين فلا يعودُ الصوتُ وحدَه في الذكْر على أَنها “أُغنيته” بل يصل إِلى الـمؤَلّف والـمُلحّن حقُّهما المعنوي من الدراسة.
هكذا يبقى إِرثُ وديع الصافي: بتَمايُزِه في الدراسة الأَكاديمية والعلْمية يَرفدُه الانتشار الشعبي في بَثّ أَغانيه من الإِذاعات والتلـﭭـزيونات وسائِر وسائِط الإِعلام، واستعادتِها (بتَفَاوُتٍ كبير) على الـمَسارح وفي الحفلات بأَصوات جديدة.
وهكذا يَـخْلُدُ وديع الصافي الـمُطْرب (وهو بين قلةّ ضئيلة تستحقُّ هذا اللقب حَيال مئَات الـمُغَنّين غير المطربين) فيبقى إِرثهُ جيلاً بعد جيلٍ بعيداً عن كلام المديح الـمَجّاني وخُطَبٍ أُمِّـــيَّـــةٍ لا تَفْهم فرادةَ صوته النادر.