811: صفارة القطار كـفـّـالاة السيّار

صفّارة القطار كفّارة السيّار
السبت 21 أيلول 2013
-811-

الجمهور الكثيف الذي زار في بيت الدين هذا الصيف معرض “لبنان على السكة”، وعاد جمهور كثيف آخر فشاهده في “أَسواق بيروت”، كانت مشاهداته ذاتَ وجهين: حبور الاكتشاف وشعور الغضب.
الحبور لدى متوسطي السن ممزوج بذكريات صفارة القطار ومحطاته وصوت عجلاته تزحف لاهثة تحت قاطرته على سكة حديدية تعبر الشوارع والأَحياء ناقلة ركاباً وبضائع، متوقفةً في المحطات التقليديّة، حاملةً قصصاً وحكايات صارت اليوم ذكريات رمادية. والحبور لدى شبان وشابات لم يروا هذا القطار إِلاّ في الأَفلام والصوَر، ممزوجٌ باستغرابهم أن تتوقَّف هذه الآلة البخارية في بلادهم التي يكاد يتوقَّف فيها كلُّ شيء.
والشعور بالغضب ناجم عن أَعمال قرصنة طالت حديد القاطرات والسكة فذهبت إِلى سماسرة حديد باعوها خرضةً “مدهنة” لوزنها الثقيل، وإِلى سماسرة متاحف لصالح متاحف عالمية، وإِلى الإِهمال حولها وفيها ومنها حتى نشب الشجر البري واجتاحتها أَعشاب طفيلية عرّشت على حيطان المحطات فحجبَتْها عن الرؤية والتذكار.
في طموح جمعية “تران تران” أَن تُعيد ترميم الهياكل المعدنية الجاثمة في رياق وتهيئتها لتكون متحفاً، وأن تعيد القطار إِلى السكة فتكون صفّارة القطار كفّارة السيّار في أَزمة السير عندنا.
وما رياق؟ مدينةُ 118 سنة من تاريخ محطة وصل إِليها أَول قطار من بيروت سنة 1895 في احتفال رسمي حضره مسؤولون من لبنان والدول المجاورة. وسنة 1912 كانت رياق تصل لبنان بالعالم العربي وأُوروبا وأَفريقيا. ولم تكتف بالمحطة بل نشأ فيها مصنع (هو الأَكبر في الشرق) بلغَت فطنة عماله اللبنانيين أَن حَوّلوا القطارات من الفحم إِلى البترول، وصمَّموا ونفَّذوا قطع غيار انتشرت في العالم حاملة اسم “رياق لبنان”. وأَكثر: صنَّعوا في الحرب العالمية الثانية قطع غيار لطائرات الجيش الفرنسي (ديغول) وأَطلقوا طائرة صنّعوها يدوياً تحمل على خاصرتها عبارة “طائرة رياق – لبنان”.
كأَنها أَبعدُ من التصديق هذه الحقائق والوقائع الـمشَرِّفة من محطة ومصنع في رياق، يرويها اليوم 32 قطاراً مهجوراً نهشها الصدأُ وعنكب فيها النسيان ونبتَت من أَرضها وشبابيكها أَشجار ناهشةٌ تستوطنها الحشرات والغربان.
وهياكل رياق تنادي في صمتها الجريح هياكل قاطرات ومقطورات أُخرى جاثمة في محطة مار مخايل (النهر) ومحطة طرابلس.
بلى: هياكل 100 قطار تنتظر إِعادة الحياة لا إِلى صفّاراتها بل إِلى رونقها قطَعاً ثمينةً لـمتحفٍ تراثي صناعي لبناني يضاف إِلى معالم لبنان السياحية الثقافية التراثية، على صورة هذا النوع من المتاحف النادرة في العالم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*