حرف من كتاب- الحلقة 126
“باتر الشّوف: الذاكرة والرؤى”- أديب خطّار
الأَحـــد 21 تـمُّوز 2013

لأَنّه ليس مُمكناً أَن يَضُمَّ كتابٌ واحدٌ كُلَّ لبنان بتفاصيل مُدُنِهِ وقُراهُ في عرضٍ سياحيّ جغرافيّ وتاريخيّ وديموغرافيّ، يَجدُرُ أَن يقومَ في كلّ مدينةٍ وقريةٍ مَن يَكتُب عن مدينته أَو قريته في عرضٍ سياحيٍّ جغرافيّ وتاريخيّ وديموغرافيّ، ويَندُرُ أَن تكونَ في لبنان ضيعةٌ أَو مدينةٌ ليسَت فيها علاماتٌ مميزة. وهذا ما يَفعلُه أَبناءٌ مُخْلصون يُسَطِّرون نُبذةً من مميِّزات مدُنهم وقراهُم فَتَتَجَمَّعُ كوكبةٌ يَجمعُها لبنان في أَرضه وتحت سمائه.
أَمامي الآن كتاب “باتر الشوف: الذاكرة والرؤى” وَضَعَه الأُستاذ الجامعيّ أَديب خطّار وجعلَ له عنواناً ثانوياً “ضيعة في الجبل اللبناني”.
الكتابُ من قسمَين جعلَ الأَوّل منهما لباتر الضيعة، والقسمَ الآخر لنادي تَيرون فيها، وهو أَسهَمَ في صدور هذا الكتاب.
الصحافي عزّت صافي قدَّم للكتاب بلَمحةٍ وجدانيةٍ عن ميزةٍ للتعاون والطُّموح طوَّرت باتر ضيعةً عصريةً. وفي مقدمّة الكتاب رسم المؤّلف حبَّه ضَيعتَه وطبيعتَها وعَراقتَها وحداثتَها وحقولَها الخصيبةَ مُحاطةً بالجبال، وصراعَ أَبنائها بين الثبات والتحوُّل، فرأَى في ضيعته قدسيّةَ العشق المستديم، تَجمع أَبناءَها على العزّة والكرامة، أَرضاً نديّةً خيّرةً تتربَّع على أَريكةٍ أَثيرة، وعلى صدرها أَشجارُ نورٍ تُوشّحُها بلوحةٍ طبيعيةٍ هادئة: نبعُها استمرارُ حياة الأَرض، ورحابُها ترتاح فيها العيونُ والقلوبُ بين عُروق الدوالي والجنائن الرحيبة وأَغصان الشجر وحنايا الحفافي وزيتوناتٍ يَفُوق عمرُها أَلفَ عام، ورشرشاتِ رذاذٍ يتصاعد مُنَوَّراً من نبعٍ أَو شلاّل.
وفي فصول الكتاب يَمرُّ أَصلُ الاسم منذ “نشيد الأَناشيد” من الكتاب المقدّس وفيه جاء: “أَنا لِـحَبيبي وحبيبي لي… فارجِعْ يا حبيبي وكُن كالظَّبي أَو كَهَدلة الغزلان على جبال باتر”.
عن موقع هذه الضيعة الشوفية جاء أَنه يَحُدّها شرقاً نيحا، غرباً مرج بِسْري، شمالاً جباع الشوف، جنوباً جزين وبْحَنين. أَمّا أَبرز آثارِها فَنَبعٌ غزيرٌ ينسابُ من مغارةٍ جيولوجية قديمة شبيهةٍ بمغارة جعيتا، وتكثُر في الضيعة مغاورُ وكهوفٌ ذاتُ فخّارياتٍ ونواويسَ قديمةٍ ذَكَرَها أَمين الريحاني في كتابه “قلب لبنان”، وأَماكن تاريخية كـ”محلّة قصر بنت الملك”، والأَعمدة الرومانية، وشوار قبر عبدة بنت الملك، وشوار ناب الذّيب فوق شيرٍ مرتفع.
وبعد فصلٍ ديموغرافيّ عن عائلات باتر على أَرضها أَو موزَّعين في بعقاتة وعالَيه وبيروت والشويفات وصيدا، سردٌ للموارد المائية في باتر والتحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية فيها، وزراعةِ التوت وتربيةِ دود القزّ، والبيادرِ والمطاحنِ، والمؤسسات الرسمية والجمعيات، وسَردٌ قرويٌّ طريفٌ لِما في حنايا هذه الضيعة الشوفية من عاداتٍ وتقاليدَ وأَعيادٍ وسهَراتٍ واحتفالاتِ الأَفراح ومناسباتِ الأَتراح، وأَغاني الزَّجل والميجانا والعتابا وأَحاديث السهرات، وسواها من ملامحَ تُظهر عراقة باتر في ذاكرة التاريخ اللبناني.
وخصَّص المؤلّف القسمَ الآخر من الكتاب لستة فصولٍ عرَضَ فيها تاريخ “نادي تَيرون الرياضي” منذ تأْسيسه سنة 1965 متَّخِذاً اسم تَيرون تيمُّناً بـقلعة “شقيف تَيرون” ومدلولها في تاريخ لبنان، هي التي لجأ إليها الأمير فخر الدين الثاني الكبير. ومن هذا السَّرد المفصَّل يتَّضح ما لهذا النادي الرياضي الثقافي من أَثَرٍ في نهضة الضيعة.
كتاب ” باتر الشوف: الذاكرة والرؤى” نموذجٌ خَيِّرٌ لنهضة ضيعةٍ حين يتكرَّر نماذجَ لكلِّ ضيعةٍ ومدينةٍ في لبنان، يكونُ لنا وطنٌ نقدّمه لأَبنائنا باقةَ تاريخٍ وجمالٍ يجعلُهم يَتَشَبَّــثُون فيه لحاضرهم ولمستقبل أَولادهم، فلا يمكنُ أَن يُحِبّ لبنانَ إِلاّ مَن يعرفونه، حتّى يكونَ حبُّهُم إِيّاهُ عميقاً نابعاً من قناعة الاعتزاز.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*