حرف من كتاب- الحلقة 125
“الوطن المستحيل”- الشاعر جوزف صايغ
الأَحـــد 14 تــموز 2013

مِنَ الشعراء مَنْ إِذا قرأْنا نَثْرَهُم باعَدَنا عن شعرهم.
ومِنَ الناثرين مَنْ إِذا نَظَموا ظَلُّوا على مستوى النَّظْم دون شِعريّةِ نَـثْرهم.
ومن الشعراء مَنْ يتأَنَّون في نَـثرهم تَأَنُّقَهم في شِعرهم فَيَتَسَاوى عندَهُمُ التأَنُّقُ والتّأَنّي حتّى يُعادِلَ شعرَهُم نثْرُهُم في نَسيج النصّ وبهاء الكلمات.
جوزف صايغ، بين شُمِّ شُعرائنا اللبنانيين، من هذه الكَوكَبة الأَخيرة: تَغار على نَـثْره من شعرِه، وتَحسُد شعرَه على أَناقة نَثْرِه.
حين وصَلَني كتابُه الأَخيرُ “الوطنُ المستحيل” الصادرُ قبل أَيام عن “دار نِلْسُن”، حجماً كبيراً في 1170 صفحة، حاملاً باقاتٍ من مقالاتِه الصحافية، خِلْتُني سأَقرأُ مقالاتٍ آنيَّةً تَزحَمُها عَجَلَةُ الصِّحافةِ وتَدْهَمُها ساعةُ الـمَطبعة التي لا ترحَمُ دقَّة التأَنُّق.
سوى أَنني فُوجئْت بأَجملَ: نُصوصٌ مَكتوبةٌ لعُجالةٍ صحافيةٍ لم تَـخسَر مطلقاً أَدبَ التّأَنُّق والتأَنّي. وأَيقنْتُ أَنّ الشاعر، أَنَّى كَتبَ وأَيّان كتَب، يَبقى شاعراً في نــثْره الأَدبيّ ومقاله الصّحافيّ مُعاكِساً أَنّ “الصحافة تقْضمُ أَصابع الشاعر” نظريّةَ نزار قباني الذي هو ذاتُهُ، حتّى في نَـثره ومقالاته الصحافية ورسائله، ظلَّ نزار الشاعرَ الشاعر.
كتابُ جوزف صايغ “الوطنُ المستحيل” تأْريخٌ أَدبـيٌّ واجتماعيٌّ وسياسيٌّ عَبر مقالاتٍ قطَفَها كرونولوجياً من مراحله الكتابية في جريدة “البلاد” (زحلة: منذ 1954) و”ملحق النهار” (بيروت: 1965-1975) و”ملحق الأَنوار” (بيروت:1966-1967) ومجلة “الجديد” (بيروت: 1967-1968) ومجلة “النهار العربي والدولي” (ﭘـاريس: 1977-1980)، إِلى مُسْتلحَقاتٍ جعلَها الشاعر فَصلاً أَخيراً في الكتاب نُصوصاً له أَو عنه مُـقْـتَـطَـفَـةً من مَـجَلاتٍ وصحفٍ في ﭘـاريس وبيروت نَشَرتْها على مراحلَ متقطّعةٍ من مسيرة الشاعر الأَدبية.
فضلُ هذا الكتاب أَنّه لوحةٌ ثقافيةٌ كرونولوجيةُ المواضيع والمراحل، لا تُؤَرِّخُ لصاحبها وحسْب، بل لِـحِقْبةٍ من لبنان الأَدب والثقافة، منذ “جائزة الجامعة الأَميركية في الإِنشاء العربي بين مدارس لبنان” في حزيران 1948 نالها التلميذان جوزف صايغ وجورج سكاف من الكلية الشرقية في زحلة، فجائزةٍ أُخرى مماثلة في السنة التالية أَيضاً تَوَّجَها احتفالٌ كبيرٌ في زحلة ترأَّسَه سعيد عقل في 6 حزيران 1949. ويَـمضي كتابُ جوزف صايغ “الوطنُ المستحيل” لا تراكُماً كَمّياً لنصوصٍ منشُورة، بل شهاداتٍ لـمراحلَ متعاقبةٍ ملازمةٍ تأْريخَ الحركة الأَدبية في لبنان منذ الخمسينات حتّى نهاية القرن الماضي، بقلمٍ جَـمالـيٍّ لم يبخُل على نَـثْره بِنَحْتِهِ الصِّياغيّ فظلَّ صائغاً شاعراً في كلِّ ما كتب.
ولئن أَبدى جوزف صايغ نظرياتِه الجماليةَ والشعريةَ في ثنايا بعض المقالات، أَو كتَبَ نقداً لـمَجموعةٍ شعريةٍ أَو كتابٍ نَـثريّ، فإِنّـما كتابتُه تَلميعُ حَدَث، تَرصيعُ كتاب، تقطيعُ مـرحلة، حتّى ليغدو كتابُهُ هذا قاموساً أَدبياً يُعادُ إِليه مراراً عند البحث عن الأَدب اللبناني، كما يُعادُ إِلى القاموس مراراً عند البحث عن كَلِمةٍ في اللغة.
ويَلفِتُ في الكتاب – هدأَةً بعدَ هدأَة، صفحةً بعد صفحة، فصلاً بعد فصل-، حُضورُ جوزف صايغ متشبِّـثاً بأُصول الشعر، متمسِّكاً بِـجُذور لبنان، مُتَبَيِّناً لبنانيّةَ الأَدب والأُدباء، حتّى لَيَبدو في حُضوره مُـحامياً قَويَّ النَّبرة، عالي الحُجّة، وجِذْعاً راسِخاً نابضاً في سنديانة الأَدب اللبناني.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*