الحلقة 1108: تَغرُزُ رأْسَها في الرَّمل ولا تَــرى
الأَربعاء 17 تموز 2013
بعدما كان لبنان، وَفْقَ إِحصاءات “الإِنْسِيَاد” (المؤَسسة الأُوروﭘـية لإِدارة الأَعمال) حلَّ السنة الماضية في المرتبة الحادية والستين بين البلدان التي تُنتِج إِبداعاً، ها هو يتراجع هذه السنةَ إِلى المرتبة الخامسة والسبعين بين 142 دولة في العالم، ويتراجع إِلى المرتبة الثامنة بين 15 دولةً عربيةً جرى مسحُ الإِبداع فيها والتطوُّرِ الخلاَّق. وَوَفْقَ الإِحصاءات إِياها، حلَّ لبنان في المرتبة السادسة والعشرين بين أَربعين دولةً ذات دَخْلٍ متوسّط. وقياس الإِبداع في تلك المؤَسسة الرصينة: التجديدُ في الحقل التجاري والاجتماعي والعلمي. ويتراوح سُلَّمُ النِّسَب بين الصفْر والمئة، وتنالُ المئةَ الدولةُ ذاتُ التجديد الأَقصى في حقل الاقتصاد. ومن المعايير الأُخرى: التجديدُ في حقول الأَبحاث والرأْسمال البشري والبُنى التحتية والأَعمال وتطويرِ السوق الإِنتاجي والتصريفي، والنشاط الاجتماعي، والتكنولوجيا والإِبداع الفنيّ والثقافـيّ.
وللمقارنة البسيطة أَين نحن في هذا التصنيف: يحِلُّ لبنان بعد جيورجيا ومنغوليا وبوليـﭭـيا وطاجكستان، وبعد الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقَطَر والكويت والأُردن والبحرين وتونس.
هنا نحن إذاً فيما نتشدّق غنائياً بتسمية لبنان “وطن الإِشعاع والنور”.
وإنه لكذلك. لا نُنكر ولا نَنفي. غير أَن إِشعاعه والنورَ لم يَعودا على أَرضه بل على أَرض السوى هنا وهناك وهنالك، لأَنّ بين أَبنائه مَن فقَدوا الإِيمان فلم يَعودوا يرَون فيه الإِشعاعَ ولا النورَ بسبب تلاطم الأَحداث حول إِشعاعه واختناقِ نورِه بالمشاحنات السياسية والطائفية والمذهبية والدينية، فطاروا منه إِلى بلدان العالم يُسهمون في نهضتها وتقدُّمها وصُعود مراتبِ إِبداعها صوب الدرَجات العليا، ويَسقُط بلدُهم، يَسقُط، عاماً بعد عام، درجةً بعد درجة، وتتقدَّمه بلدانٌ أُخرى تعمل على تطوير إِبداعاتها وتجديدِها وتالياً رفعِ مراتبها صوب التطوُّر المتواصل.
كلُّ هذا حصَل، كلُّ هذا صدَر، كلُّ هذا انتشَر، ولم نسمَعْ صوتاً واحداً من دولتنا حول هذا الأَمر، ولا أَعرف إِن كان في هذه الدولة من قرأَ هذه الإِحصاءات كي يعلِّقَ عليها أَو يسعى إِلى تحسينها أَو على الأَقل كي يَخجلَ منها ومن الدَّرْك الذي أَوصلنا إِليه طقمُ سياسيين معظمُهم نرسيسيُّون يرَون على وجه الماء وجوهَهم فقط ولا يرَون في عُمق الماء وطَناً يَغرَق في التراجُع بسبب مشاحناتِ السَّواد الأَكبر من سياسيّيه ونزاعاتهم حول مقعدٍ وزاري، حول ﭘـوانتاج نيابي، حول فرْضِ سلطةٍ تعلو على الدولة، غيرَ واعين أَن مفاصلَ هذه الدولة تتفكَّك وتكاد تَهوي وهم عنها غافلُون بشخصانيّاتهم الضيّقة، غيرَ عابئين باصطلاح الوطن ومصلحة المواطن وصلاح صورة لبنان في دول المنطقة وفي العالم.
هكذا معظمُ الطبقةِ السياسية عندنا:
نَعامةٌ تَغرز رأْسها في الرَّمل فلا ترى أَنّ العاصفةَ آتيةٌ وسوفَ تجتاحها هي قبل أَن تجتاح البلاد.
تَغرز رأْسها في الرَّمل ولا ترى المهاجرين من أَبنائنا يتخرّجون من جامعاتهم ويَهرعون إِلى المطار صوبَ بلدان تحتاج أَدمغتهم لتُفيدَ منهم ومنها وتزدادَ تطوُّراً وإِبداعاً ونُـمُوّاً بين سائر البلدان.
تَغرز رأْسها في الرَّمل ولا ترى سببَ التراجُع في المراتب، ولا تَسعى إِلى حلول، ولا تُفكِّر في علاج، لأَنها منهمكةٌ في المشاحنات السياسية والحزبية والكَيدية والطائفية، وفي المواقف الأَنانية العنيدة المتصلّبة المتشبِّثة، والوطنُ ينحدِر عاماً بعد عام من مرتبةٍ دُنيا إِلى مرتبة أَدنى.
تغرز رأْسها في الرَّمل ولا ترى.
ولعلّ دواءَها الوحيد أَن يُغْرِزَها الوطنُ نفْسُهُ في رَمْلٍ أَعمق حتى تَغرقَ تَغرقَ ولا يعودَ يراها.