ليلتَها، في راس كَفْرا ناديا وغسّان تويني، كنا حلقةً مَـحدودةً من شُعراء وأُدباء وصحافيين.
وكانت بيننا كلير جبيلي، بِـهَيَبتها الدَّمِثة، وكَعكَة شَعرها المعهودة، وصوتها الضئيل يُلقي علينا شعرَها، وتتبادل الإِلقاء مع ناديا التي كان وجهُها، كما قصائدُها تلك الليلة، يُوحي بِـحُـزْنٍ عميق: كان لبنانُ الوجيع قلقَ ناديا وكلير معاً.
وكانت كلير أَصدرت قبل أَسابيعَ كتابَها “التحديث” (Mise à jour) وفيه ملامحُ وطَنٍ يتمزَّق، ويُذكِّر بكتابها السابق “مذكِّرات المنفى” (Mémorial d’exil) قُبَيلَ أَن تَندلعَ حربُ لبنان. ليلتَها قرأَتْ من كتابها “قصائد مُسْتَتِرة” (Poésies latentes) وفيه حَدْسٌ بالحَدَث الذي شَعرَت به آتياً على لبنان. كانت تُراقب في حَذَرٍ خائفةً من أَيامٍ سُود تنتظر لبنان. فحتى في كتابها “الولد الجانح” (L’Enfant délinquant) وفي كتابها الآخر “مَـحاكمُ للأَولاد” (Tribunaux pour enfants) لم يَخْلُ حدْسُها من قلقٍ على وطنٍ تعيشُ فيه تاركةً يونانَ والدَيها ومصرَ وِلادتِها ونشْأَتها وجاءت إِليه تَبني عائلةً لبنانيةً وتَتَبَنّى لغة راسين، وبكتاباتها الصحافية في “لوريان لوجور” وكُتُبِها ورواياتها وقصائدِها تُسْهِم في نهضة الأَدب اللبناني بالفرنسيّة، وتُكْمل حلقةً تُرصِّعها ناديا تويني وأَندريه شديد وﭬـينوس خوري غاتا، ويُتَوِّجها جورج شحادة وفؤاد غبريال نفاع وفؤاد أَبي زيد وصلاح ستيتيه وسواهم.
ليلتَها، في راس كَفْرا ناديا وغسان تويني، كان كبيراً قلقُ كلير جبيلي على لبنان، وقوياً حدْسُها الشعري والروائي والصحافي، وحقيقياً خوفُها من تَـمَزُّق لبنان كما أَلْـمَحت إِليه في كتُبها الصادرة، وكما ظهر جليّاً بعدها في كتابِها الـلاحق “حــوارٌ مع النار” (Dialogue avec le feu) الذي قدَّمَت له أَندريه شديد ولم تُـخْفِ قلَقها من حدْس كلير جبيلي في ذاك الكتاب.
إِلى أَن ظهَرَت روايتها الأَخيرة قبل عشر سنوات “غنائيَّةٌ للعصفور الميت” (Cantate pour l’oiseau mort) تَرسُم بِوُضوحٍ ما كانت عليه من خوفٍ على الوطن الذي أَحَبَّتْهُ واحتضنَت أَخطاره كما بِصَدْر أُمٍّ تَخافُ على وليدها من المستقبل الجَنين.
“حرفٌ من كتاب” لن يَقرأَ اليومَ كتاباً بل مـرَّ على باقةِ كُتُب من كلير جبيلي التي ودَّعها لبنانُ الأَدب الأُسبوع الماضي طاوياً معها حِقْبةً من أَدَبٍ لبنانـيٍّ فرنكوفونـيّ كانت ﭘـاريس تُباهي به وتَنشُره يضاهي أَدبَ أَبناء ﭘـاريس والفرنسية والفرنكوفونيا معاً، شُعَلاً من لبنان تُضيءُ على العالم، في لُغة هوغو وبودلير وراسين، بِـلا أَقلَّ أَناقةً وعُمقاً وبَراعةً من أَبناء لغة هوغو وبودلير وراسين.
ختاماً، وانحناءً لتذكار كلير جبيلي، ولِـحُبِّها بيروتَ ولبنان، أَختار من كتابها “حوار مع النار” هذه المقاطع عن بيروت:
الكتابةُ لبيروت… كما نِسْوةٌ مُـحَجَّباتٌ، تتنصَّت السنواتُ عند أَعتاب الأَبواب، وتُخفِضُ المواسمُ أَهدابَها لرُؤْية الدَّمار وحيطانٍ محروقةِ الجُبّة. وحدَها الرّيحُ تَدخل الغُرَف هامسةً كي لا يَكسر أَحدٌ مناجاتَها الإِحادية.
الكتابةُ لبيروت… ضِفّةٌ كِلسيةٌ لسُوق فارغ، حواجزُ شائكةٌ في حَيٍّ مُوحِلٍ كان مسرحَ المعارك الأَخيرة… فَـــمٌ أَسْوَد للسراديب على شاطئ الظلال.
الكتابةُ لبيروت… لم يَعُدْ مُهمًّا أَن تُفرِغَ المراكبُ حمولةَ الحرير على ميناء هذه المدينة الضائعة في البُؤْس، وأَن تَبسُط الذاكرة ذهبَها على الأَصداف لاتّهام الجرح وإِلقاء الأَسى بإِذلال المدينة المخطوفة.
الكتابةُ لبيروت… مواصلةُ النداء عبَثاً، مواصلةُ الحُبّ بلا طائل، تَيَهانٌ فَنَومٌ في مركبٍ خَذَلتْه أَغانيه وخانَتْه لذَّةُ الحياة.
الكتابةُ لبيروت… هي الكتابةُ لِثَوْبها الأَلْفيّ الأَعراس، لِقلْبها المُرَبّع وشرايينها الغامضة، لِنظامِها ليلاً، ولِحصاها المُحْمَرَّة يومياً بسُطُوع الشمس.
هكذا هي، في وَجَعِها ونَزْفِها، الكتابةُ لبيروت.