“ويلٌ لأُمَّةٍ تَكثُر فيها المَذاهبُ ويقِلُّ فيها الدين”
السبت 29 حزيران 2013
-800-
حين مهّدَت الثورة الفرنسية لقيام الدولة العلمانية، لم يقُم أَثناءَها ولا بعدها مَن ناهضَ الدين أَو تعرَّض لمركز عبادة.
وكذا الثورةُ الأَميركية: أَسَّسَت للدولة العلمانية مع احترام شِيَع ومذاهب وطوائف وفروعٍ دينية كثيرة لا تتدخَّل في الحياة المدنية اليومية لدى مفاصل الدولة أَو بين صفوف الشعب.
هذا الواقع دفعَ جبران إِلى صرخته قبل تسعين سنة: “ويلٌ لأُمّةٍ تكثُر فيها المذاهب ويقِلُّ فيها الدين”. كان يحاول إِنقاذ بلاده من نير خانق يسيطر عليها، ولم يتصوّر أَنّ تلك الصرخة ستبقى صالحةً حتى اليوم، بل ستنتشر أَكثر في وطنٍ رفضَه بــ”لَكُم لبنانكم ولي لبناني” وخاطبَ مُواطِنَه أَنى كان بشموليةٍ إِنسانية: “لماذا تُخاصِمُني وأَنتَ رَفيقي على طريق الحياة، وأَنا أُحِبُّكَ ساجداً في جامعِك، راكعاً في هيكلِك، مُصلِّياً في كنيستِك”!
هذه الدعوةُ تُنقذ الدين من مُغالين باسم الدِّين، مُستغلّين كلَّ ما لا علاقة له بالدِّين الذي لَـم يَدْعُ إِلاّ إِلى التسامح والمحبة بين بني البشر.
هوذا المسيح يدعو في وُضوح: “وَصِيَّتِي أَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَنا أَحْبَبْتُكُمْ” (يوحنا 15:1)، وهوذا يوحنا ذاتُه يستوحي هذه الوصية في رسالته الأُولى: “كاذبٌ من قال إِنه يُحبُّ الله وهو يُبغضُ أَخاه. فكيف يُحبُّ اللهَ الذي لا يراه ويُبغِض أَخاه الذي يراه؟”.
وهوذا الله تعالى يُخاطب المؤْمنين في القرآن الكريم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات:13)، وأَكثر: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (الحجرات:10).
وهوذا أَنَسُ بن مالك ينقل عن حديث شريفٍ للنبي وصيّتَه الإنسانية: “عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّه قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”.
فمن إِذاً يَرى في تعاليم القرآن الكريم أَو الإِنجيل المقدس ما يدعو إلى الـمُخاصمة أَو الـمُقاتلة أَو ارتجال أَحداث مذهبية أَو طائفية أَو دينية؟
العَلْمنة ليست الكفْر في أَيِّ دين، بل هي احترامُ الدين وتقديسُ شعائره في مراكز شعائره.
لذا لن يُنقذَنا من السيوف الـمَشهورة باسم الدِّين إِلاّ شَهْرُ الدين ذاته هِدايةً واهتداءً، وفصلُهُ عن الدولة حتى تُساوي الدولة بين مواطنيها ويساوي الدِّين بين مؤْمنيه.
من هنا نبدأُ بدخول العصر كي نستاهلَ العصر.
وإِلاّ فنحنُ باقون في عصُور وُسطى جاهليةٍ تَسوسُها الغرائز وتُدمِّرُها الغرائز وتَتَناسلُ أَجيالاً جديدةً مَـجبولةً بالغرائز.
وما هكذا نُـهيِّئُ للمستقبل أَجيالَ لبنان.