لا تَزال بيروت، وستبقى، تَستقطبُ كلاماً وأَقلاماً وأَيّاماً هي بين خواطر الزمن حُلِيَّاتُ الزمن.
صدر عنها الكثير ويَصدر وسوف يبقى لها كثيرٌ يقال، لا القولُ ينضُب ولا هَيْبَتُها تَذبُل من أَلَق.
بين يديَّ كتابٌ عمرُهُ خمس عشرة سنة ولا يزال نَضِر البَوح عن بيروت، أَنيقَ البثّ عن أَلقِها الـمُشِعِّ دوماً جوهرةَ المدن.
أَمامي كتابُ “المدينة مَنبعُ إِلهام“(La Ville-Source d’inspiration) للدكتورة منى تقي الدين أَميوني، صادرٌ بالفرنسية سنة 1998 عن منشورات “المعهد الأَلماني للدراسات الشرقية” في 240 صفحة حجماً كبيراً، وكان أُطروحةَ دكتوراه قدَّمتْها المؤلِّفة في جامعة السوربون سنة 1990 ونالت عليها درجة “جيِّد جداً”.
مَباحثُ الكتاب عن المدينة شملَت القاهرة (مع نجيب محفوظ) والخرطوم (مع السوداني الطيب صالح)، وبيروت مع مجموعة أُدباء وجعوا مع بيروت خلال سنوات الجمر التي لوَّعتها.
معالجة الموضوع انطباعيةٌ حدسيةٌ بَدَت بها مَشاهدُ المدينة ذهنيةً أَكثر منها مكانية، ومنبعاً غنياً جعل الأُدباء يُثْبتون في نصوصهم تُراثاً إِنسانياً مرتبطاً وثيقاً بمعنى المدينة جوهراً ونمط حياة. فالمؤلِّفة وجدَت في بيروت أَفصحَ تعبيرٍ عن واقع المواجهة بين الإِنسان والمدينة: بيروت إِحدى أَقدم المدُن الأَثرية في العالم دمَّرَتها حربٌ شرسةٌ سنواتٍ حارقةً حتى إِذا نَقَّب فيها المنقبون بعد الحرب وجدوا في قلبها حياةً لا تَمحوها حروبٌ ولا عصور، وحين حسَرَت عن صدرها وجدَ العالم أَنّ بيروت مدينةُ الحياة التي لا تطفئها، مهما بطَشَت، جَهنَّماتُ الموت.
وتروح منى تقي الدين أَميوني تتابع بيروت قبل الحرب وخلال الحرب وبعد الحرب.
تَبدأُ بروايةٍ تنبَّأَت عن الحرب قبل وقوع الحرب: “طواحين بيروت” لتوفيق يوسف عواد، صدرت في مطلع 1975 ورسمَت تشنجاتٍ تصادمت لاحقاً في بيروت بعدما تلأَلأَتْ ببهرجةٍ خنقَت المدينة وعشّاقها معاً. وكانت منظمة الأونسكو في سلسلتها “مُؤَلَّفات الأُدباء الأَكثر تمثيلاً لعصرهم” اعتمدت هذه الرواية ” كــ”واحدةٍ من أَفضل مئة رواية في تاريخ الأَدب العربي”.
بعدها تعالج المؤلفة رواية “ست ماري روز” لإيتيل عدنان حيث يفجِّرُ العنف حياةَ المدينة شظايا تَتَفَتَّت في الفضاء فيعود كلُّ شيءٍ بدائياً. ولأَن الذاكرة لا تُشفى، تَقذِف المدينة روّادَها إِلى أَرصفة الشوارع، فتتماهى عندها المرأَة والمدينة في مناخٍ من كُفْرٍ جاحدٍ لا يَلبث أَن يُعيد المدينة والمرأَة معاً إِلى الطُّهر الأَوّل حين تَطلَع من رمادها هَيْبَةُ المدينة.
وبالتحليل نفسه تُعالج منى أَميوني روايات الياس خوري ورشيد الضعيف وهدى بركات، وتمر على كتابات محمود درويش عن بيروت التي ولدَ فيها ثانيةً مدينةً تتحقَّق فيها الأَفكار وتتفتَّق المواهب والخيالات وتتجسّد الأَحلام الوردية.
وتخصِّص المؤلفة فصلاً لاستجماع آلام بيروت المستعيدةِ خلاصَها في كتابات شعرائها من ناديا تويني إِلى كلير جبيلي إِلى أَدونيس، وُصُولاً إِلى جورج شحادة الذي يرى إِلى بيروت مدينةً من الخيال الشاعريّ الجميل.
وتختم منى أَميوني كتابها بأَنّ “المرأَة والرجل يشربان معاً من نبع المدينة، إِذا فقداه تاها يبحثان عن قلب المدينة. الرجل والمرأَة يسكنان، حقيقةً أَو خيالاً، في قلب المدينة لأَنه، كما قال شاعرٌ يوناني قديم، لا يصير الإِنسان إِنسانياً حقاً إِلاّ إِذا سكَن المدينة.
كتاب منى تقي الدين أَميوني “المدينة منبعُ إِلهام” سِفْرٌ موثَّق أَدبياً عن مُدُن زارتْها المؤلفة وأَحبَّتْها لكنها بدأَت وجالَت ثم عادت إِلى المدينة التي لا غِنى عنها ولا ضَيَاع: بيروتِنا الغاليةِ الحبيبة، مصدرِ الإِلهام وينبوعِ الحُبٍّ الحقيقيّ.