حرف من كتاب- الحلقة 112
“نهر أدونيس- وادي الخيالات الراقصة”- ريكاردوس وميرنا الهبر
الأَحـد 14 نيسان 2013

مَن يتابع مؤلّفات ريكاردوس الهبر وميرنا سمعان الهبر يظنُّ أَنه باقٍ في السياق نفسه مع كتابهما الجديد “نهر أَدونيس – وادي الخيالات الراقصة”، الصادر حديثاً بالإِنكليزية في 354 صفحة حجماً موسوعياً كبيراً، وفي طباعةٍ أَنيقةٍ وإِخراج مـمتع. غير أَنهما، في هذا الكتاب الجديد، تَخطَّيا إِطارَ الطبيعةِ اللبنانية وأَزهارِها وجمالاتِها إِلى العمق التاريخيّ والحضاريّ لـمِنطقة وادي أَدونيس المعروفة اليوم – إِجحافاً تاريخياً – باسم “وادي نهر ابرهيم”.
الكتابُ ذو رسالةٍ لبنانيةٍ عميقة تتركَّز ملامحها في الوادي الذي هو امتدادٌ جغرافيٌّ وتاريخيٌّ لـمدينة جبيل الـمتروﭘـوليتية، وفيها عناصرُ تَوَاصُلٍ حضاريٍّ قديم لأَنّ نهر أَدونيس يعني جبيل كذلك وكان أَساسياً في حياتها الفكرية والعقائدية والدينية: كان الناس يتعبَّدون لأَدونيس وعشتروت، ويسلكون الوادي على ضفّتي النهر من بيبلوس صُعُداً إِلى أَفقا حتى إِذا احمرّت مياه النهر بفعل العوامل الطبيعية خَشَعَ الناس أَن “مات أدونيس”، مستذكرين أُسطورةَ العاشق أَدونيس الذي تعلَّقَ الإِلهة عشتروت مثيراً غضبَ عشيقها الإِله وتصميمَه على الانتقام. نصحَت عشتروت حبيبَها الوسيم أَلاّ يَخرجَ وحده إِلى الغابة لكنه لم ينتَصِح فخرجَ إِلى الصَّيد ولاقاه خنزير برّيّ صَرَعَه وسال دمُه في تلك الناحية، فاصطبغَت به مياهُ النهر وبات اسمُه من يومها “نهر أَدونيس”، يصطبغ بالأَحمر الدَّمويّ وتُزهر على ضفّتيه الشقائقُ الحمر مُعلنةً عودةَ أَدونيس إِلى الحياة وعودةَ الطبيعة إِلى أَول الربيع.
هكذا يُثبتُ المؤلِّفان بالنَّص والصُّوَر أَنّ تلك الـمنطقة وَحدةٌ متكاملةٌ سَكَنَها الأَقدمون ساحلاً وجبلاً، وأَنّ في منطقة جبيل تلك، والوادي تحديداً، مراحلَ تَطَوُّرِ الإِنسان، ما يجعل هذا الكتاب أَوّلَ إِضاءةٍ علْمية على هذا الوادي.
وفي الصُّوَر مقاطعُ من أَدغالٍ وصُخورٍ تشير إِلى معالِـمَ حضاريةٍ قديمة سحيقة لم تَتَحَتَّت بعدُ بفعل عوامل الطبيعة، تُشير إِلى هذه المنطقة أَيام كان حوض المتوسط يبني حضارته وتاريخه تَوازياً مع مصر واليونان وبلاد ما بين النَّهرين، وكان فينيقيُّو بيبلوس الجبيليُّون يَبنون الحضارة ويشعّون بها من صيدا وصور.
ويضيْءُ الـمؤلِّفان على أَهمية معابدَ قديمةٍ في منطقة جبيل تشكِّل معالمَ مهمة من التراث العالَـميّ لا تذكرها الكتُب الـمعنيَّة كما تذكر شعوب الـمايا والـحضارات القديمة وقمم الهملايا والنيـﭙـال حيث الزُّهّاد يتعبّدون في المناسك العالية عند تلك القمم، ولا تذكُر طقوس التعبُّد في جبيل وأَفقا. ولو فعلَت وانتشرَت لكانت عندنا ظاهرةٌ وطنية تُغيِّر حتماً في تاريخنا الذي كان نابضاً بجواهر الحضارة فيما كانت أُوروﭘـا لا تزال غارقةً في الظلمات.
ولأَنّ لبنان يحتضن هذا الـمعالم في هذا الموقع العالمي، يركِّز الكتاب على ضرورة حفْظها وحمايتها غنىً طبيعياً لبنانياً فريداً في العالم، لأَنّ أَرضنا الغنيّة بهذا الإِرث الطبيعي هي التي استجلبَت إِليها الإِنسان حتى حَــوَّلها حضارةً متميِّزةً نادرة.
من هنا تتوزَّع فصول الكتاب الثمانيةُ على نشر تلك المعالم بدءاً من “النهر وطقوس العبادة”، مروراً بـ”الإِلهيّ يتفتَّح”، فــ”بيبلوس حضارة المياه والصخور”، ثم “إِرث حضارة الطبيعة”، فــ”وادي الحَجيج”، و”رحلة في مياه الجمال”، و”الإِرث الطبيعي في الوادي الظليل”، وصولاً إِلى الفصل الثامن الأَخير “رقص الخيالات”.
وفي صفحات الكتاب آفاقٌ وسيعةٌ بالمعلومات والصوَر الجميلة من طبيعة وادي أَدونيس وجوارها: سهولاً وحقولاً وصخوراً وجبالاً وظلالاً وحجارة كانت مرةً بيوتاً أَو قصوراً أَو معابد، ما يسترجعُ ذاك الزمنَ الذي كان فيه لبنان قبلة الحضارة.
“نهر أَدونيس- وادي الخيالات الراقصة” لريكاردوس الهبر وميرنا سمعان الهبر، موسُوعةٌ من جمالات لبنان تُنير تاريخَه وحضارتَه وطقوسَه القديمة في وادٍ ونهرٍ وجُبيلٍ هي على جبين الأَمس ويجب أَن نعرفَ كيف نحافظُ عليها كي تظلَّ على جبين لبنان اليومَ وكلَّ يومٍ من صباحات المستقبل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*