“ما كان للبنانَ وجود، ولا كانت حُفِظَت له حُدود، لولا بضْعُ قِيَمٍ أَساسيةٍ يَعيشُها أَبناؤُهُ بعِنادٍ رُغمَ موانع الحياة، قيَمٍ هي مواقِفُ روحيةٌ تجعل القضيةَ اللبنانية مفتاحاً أَساسياً لـمَغالِقِ تاريخنا… إِنَّ لبنانَ مساحةٌ روحية”.
كانت تلك آخِرَ كلماتٍ خَطَّها القلمُ الثائرُ: قلمُ فؤاد حدّاد قبل أَن يَصرعَه الغدرُ ضحيةَ عِناده بلبنانيّة لبنان.
هذا هو الجوُّ الساطعُ يُطالِعُنا، من الغلاف إِلى الغلاف، في كتاب “فؤاد حدّاد والقضية اللبنانية” للشاعر جوزف أَبي ضاهر، صادراً عن منشورات جامعة سيّدة اللويزة في 232 صفحة قطْعاً وسطاً في سبعة فصولٍ ومقدّمةٍ وخاتمة.
الاستهلال “فُتحةُ بابٍ” يَشُقُّها المؤلّف باختصارِهِ أَنّ فؤاد حدّاد “تَوْأَمَ ذاتَه بوطنه، ونَعِمَ بما أَعطاهُ ولو بالقليل من كثيره”. ففؤاد حدّاد “لم يكن متفرِّداً بـمواقفَ مُغايرةٍ وقائعَ صيغَت لأَهدافٍ غير مَـخفية، بل كان فخوراً بانتمائه قدْرَ إِدراكه هذا الانتماء. شارك أَبناءَ جيله فرسانَ الملحمة اللبنانية إيمانَهم بتجاوز الأَوصاف الطوباوية إلى أَساسٍ رُكنٍ هو الحرية. فالحريةُ جوهرُ وجودِ لبنان منذ البدء والخَلْق والكلمة وُصولاً إلى دوره المهمّ في محيطه”. لذا “لا يزالُ صوتُ فؤاد حدّاد مسموعاً فوق الورق، طالعاً من حبر اللَهفة، ومن اشتعال نارٍ مقدَّسةٍ ظلَّ مُـخْلصاً لها حتّى الاستشهاد”.
هكذا رسَمَ جوزف أَبي ضاهر شخصيةَ فؤاد حدّاد الذي الْتزم القضية اللبنانية من منطقٍ حضاريٍّ إِنسانـيٍّ لا من منطقٍ متزمِّتٍ شوﭬـينيٍّ انعزاليّ، فكتب عنها، وحاضر فيها، وعاش لأَجلها، ومن أَجلها استُشهِد.
فصلاً بعد فصلٍ يروح جوزف أَبي ضاهر، رسّامُ الشكل واللون، يرسُم بالكلمات سيرةَ “أَبو الحنّ” (كما كان يوقّع مقالاته الصحافية): منذ طفولته في حماية والدته الصحافية والكاتبة حَـبُّوبة حدّاد، ومرافقتِه إِيّاها في جميع مراحل حياته من الدراسة إلى الصحافة إِلى ليالي الفرح والمآسي، حتّى قال فيه رفيقُ دَرْبه فاضل سعيد عقل: “قصةُ هذا الفتى مع أُمّه لا تُضاهيها قصّةٌ ولا يستطيع أَحدٌ أَن يكتبَها أَو يكشِفَ أَسرارَ هذا الولدِ الـمُولَعِ بأُمّه وتلك الأُمِّ التي نذرَت له حياتها كي تراهُ في الصورة التي تحلم بها كُلُّ أُمّ”.
وبين ولادة فؤاد حدّاد سنة 1915 وسقوطه ضحيةَ الغدْر في أَيلول 1958 تضجُّ حياة “أَبو الحنّ” أَحداثاً وحوادِثَ ونشاطاً صحافياً وثقافياً وأَدبياً، حتّى كأَنّ سنواتِهِ الثلاثَ والأَربعين كانت مَـجبولةً بالنبْض من أَجل القضية اللبنانية، وفي سبيلها ظلَّ حاملاً رايةَ الحرية كلمةً وفعلاً وقولاً وكتابة.
لـم يَجمَع فؤاد حدّاد كتاباته ونُصوصَهُ ومقالاته ومحاضراته في كتاب. ترَكها منثورةً في صحافة ذاك الزمان من “البيرق” إلى “البشير” إلى “الحديث” إلى “العمل” إلى “المكشوف”، وجميعُها ذاتُ نبضٍ حارٍّ يرتعش بين أَصابعه اللاهِبة فتَنزِلُ أَلْسِنةً من لَهَبٍ على الذين كان ينتقدُهم بلا هوادة من السياسيين أَو من ذوي النفوذ.
وبين وظيفته في دائرة الفنون الجميلة من وزارة التربية، وكتاباته اللاهبة، كان فؤاد حدّاد ثورةً حيةً، وصرخةً لا تَهدأ. وحين خرج من مكتبه في وزارة التربية ذاكَ النهار (11 أَيلول) ربّما كان ذاهباً يُضمر صرخةً أَقوى، لكنّه لم يصِل إِلى البيت ولا إِلى قلمه. يومها اختفى فؤاد حدّاد ثم وُجِدَ صريعاً في قَعر بئر. غير أَنه – على الأَرجح – فيما هو يسقط، ظلّت يدُه مرفوعةً كأَنّ فيها قلَماً يأْبى أَن يسقُطَ معه، ويُصرُّ أَن يُكمِلَ كلماتِه الصارخةَ من أَجلِ البَهاء والنَّقاء في ضمير القضية اللبنانية.
جوزف أَبي ضاهر، في فصول كتابه “فؤاد حدّاد والقضية اللبنانية” أَضاء بِسُطوعٍ على سيرة الرجل وعلى نصوصٍ له غيرِ معروفة، ليبقى كتابُه وثيقةً عن كاتبٍ وكتاباتٍ لهُ ستظلُّ نابضةً في ذاكرة المستقبل عن قلَمٍ عنيدٍ من شُهداء القضية اللبنانية.