“بين 1843 و1861 تجمَّعَت في القائمقامية المسيحية أَقليّةٌ مارونيّةٌ مضطربةٌ تَـخبَّطَت في فوضى مَخاوفها ورهاناتها المبتورة، وفصَّلَت لها دوراً أَكبر منها فسقطَت ضحيةَ وهمِها بذاك الدَّور، وارتطمَت بسلسلة حروبٍ دامت عشرين عاماً خسرتْها جميعَها لسوء تقديرها تحالفاتٍ ستراتيجية، ولعُطب أَساسيّ في تركيبتها الأقلّوية جعلها تَغرق في تراتُبيات منغلقة وتَفقدُ إِحادية الراعي، وتجهلُ أَهمية الاتحاد الجَماعي فتكسَّرَت عند شاطئ قلقها الوجوديّ وانقلبت على صيغة المقاطعجيّة التي تحكمها، وما كانت تملك عنها بديلا”.
هذا المقطع عن الجماعة المارونية، لولا التاريخان في أَوّله، لَـخِلناه قيل اليوم عمّا تتخبّط به المارونيةُ السياسة حالياً وسْط أُوقيانوس تجاذُبات محلية وإقليمية، غافلة عنها جميعِها متلهيةً بحزازاتها الضيِّقة رغم تنبيهات السلطتَين المعنيَّتَين المدنية والروحية.
سوى أَنّ هذا الكلام الرائي، هو مدخلُ كتاب “طانيوس شاهين – من منازلة الإقطاع إلى عجز الثورة – لبنان بين 1858 و1859 و1860″، للكاتب والصحافي أَنطوان سلامة، صدَر قبل أَيام عن منشورات “دار النهار” في 150 صفحة قسماً عربياً، يليه قسم فرنسي من 100 صفحة لوثيقةٍ تاريخية فريدة: “مذكّرات سرية وحميمة لأَحداث 1858-1860 والوقائع السياسية التي تلَتْها – ثورة الجبل وسقوط الإقطاعية” وضعها الكاهن اللعازاريّ ﭬـنسان مجهول الاسم الكامل، وجدَها المؤلف، فيما كان يضع كتابه التأريخي عن بلدته زوق مكايل، إبان بحثه في معهد عينطورة عن وثائقَ حول رجل الاستقلال سليم تقلا.
بأُسلوبٍ سلِسٍ سائغٍ على سردٍ هو بين التقرير الصحافي والإِشارات التاريخية، تَـمكَّن أَنطوان سلامة من نسج صورةٍ في خمسة فصولٍ، كأَنها على نول الزوق، لِـمرحلةٍ معقَّدةٍ من تاريخ جبل لبنان.
خارطة الكتاب التاريخيةُ تبدأُ من حكم القناصل، وتَجُول على لبنان وسط الاستعمار الأُوروﭘـي، فالصراعِ حوله في بلاط ناﭘـوليون، فنفور القنصل الفرنسي من الموارنة، وانتشار الفساد في القائمقامية المسيحية، فامتعاض الخازنيين من التسوية النمساوية، فتوتُّرِ الإِقطاعيين والصراع القاسي بين الأَخَوين يوسف بك كرم وشقيقه ميخائيل، واللمعيين وخلافة القائمقام، حتى بداية العاميات الشعبية بدءاً من غزير والعاقورة.
ويكمل المؤلف رسمَ الخارطة بتدخُّل بكركي مودِّعةً بطريركَها يوسف حبيش ومنتخِبةً خَلَفَه يوسف الخازن فخَلَفَه بولس مسعد المتِّخذَ موقفاً وسطياً بين الإِقطاع والعامة، خصوصاً بعد انطلاق الشرارة الأُولى للثورة من زوق مكايل ضد رئيس دير البشارة الخوري يوسف راجي الخازن وإِقطاعيّي مشايخ آل الخازن. ومن تلك الشرارة توسَّعت الثورة بقيادة طانيوس شاهين تعاوناً مع الزوقيّ الياس المنيّر. وسرد المؤلف أَخطاء آل الخازن وتجاوزاتهم وتسبُّبَهم بدخول العسكر الشاهاني التركي إلى كسروان وتبَنّي الآباء اللعازاريين ثورةَ طانيوس شاهين زعيمِ الثورة ورأْسِ حربتها.
سوى أَن الثورة ما لبثَت أَن تشعَّبت وازدادَ أَنصارها ومناهضوها فعرفَت خضّاتٍ كثيرةً بدءاً من فساد الجمهورية الشعبية فاضطرابِها حتى سقوطِ تلك الثورة بسقوط قائدها ضحيةَ صراعٍ فرنسيّ تركيّ إنكليزيّ وانتصار يوسف بك كرم على طانيوس شاهين بمباركةٍ مباشِرة من البطريرك الماورني بولس مسعد. سوى أن يوسف بك كرم الذي ألغى طانيوس شاهين عاد نظام المتصرفية فألغاه ونفاه إلى مصر يواجه نهايته التاعسة.
أَنطوان سلامه، في كتابه عن طانيوس شاهين، رَسَمَ ﭘـانوراما لبنانية تجلَّت براعتُه في نَسْجها أَنه سردَها بما يوحي أَن أَحداث تلك السنوات الثلاث كانت بروﭬـا صدفويةً لِـما سيقترفُه سياسيُّو الموارنة خلال عقد ونيِّفٍ من هذا القرن الحادي والعشرين.