حرف من كتاب- الحلقة 100
“فرنسا في لبنان والشرق الأدنى”- ابراهيم تابت
الأحـد 20 كانون الثاني 2013

في بحْثٍ معمِّقٍ موثَّقٍ منسَّقٍ رصين، وفي 434 صفحة قطعاً كبيراً، أَصدرَت “منشورات المجلة الفينيقية” كتاب “فرنسا في لبنان والشرق الأَدنى بين القرنين الحادي عشر والحادي والعشرين” باللغة الفرنسية، للكاتب اللبناني ابرهيم تابت، مزوَّداً بلائحةٍ طويلةٍ من المصادر والمراجع المحلية والعالمية، ولائحةٍ أُخرى كرونولوجية من سنة 400 حتى نيسان 2011، ووثائقَ أُخرى أَغْنت جميعُها الكتابَ بوقائعَ وأَسماء وتواريخَ تجعلُه مرجعاً تاريخياً وسوسيولوجياً لمرحلةِ عشرةِ قرونٍ زاخرةٍ بالأَحداث.
يرسم الكتاب خارطةً تاريخيةً للعلاقات بين فرنسا ولبنان والشرق الأدنى منذ الصليبيين حتى اليوم. وأَبعد من السرد التاريخيّ الأُفقي، يعمِّق الكاتبُ في تحليل الـمُجْريات السياسية والاقتصادية والثقافية طوال عشرة قرون. ويرصدُ التحوّلاتِ من مطلع القرن حتى مشروع “الوحدة من أَجل المتوسّط” مروراً بمواقف فرنسا في سياستها العربية، والتأثيرَ الإقليميَّ لفرنسا وهي أَصبحَت قوةً متوسطة، وصولاً إلى البحث عن مصير الفرنكوفونيا في لبنان إزاء السيطرة الأَنكلوساكسونية والثقافة الأَميركية الباسطة الحضور.
ويرى الكاتب أَنّ العلاقات الفرنسية اللبنانية، حتى حين كانت تحت عنوان حماية المسيحيين في الشرق، كانت متعلقةً بالعلاقات الفرنسية العثمانية والعلاقات مع العالم العربي والإسلامي. غير أَن تلك العلاقة الثنائية مع لبنان، بـخضوعها للتاريخ والجغرافيا، هي أَقْدم ثوابتِ الدﭘـلوماسية الفرنسية التي، منذ فرنسوا الأَوّل إلى شارل ديغول، تركت تأْثيراً بارزاً في كل المنطقة.
سوى أَن تمييز فرنسا لبنان، ولو لم يَعُدْ كما كان أَيّام مؤسس الجمهورية الخامسة بل صارت سياستها في المنطقة العربية تراعي الخط الأوروﭘـيّ والأَطلنطيّ، إِلا أَنها ما زالت تواجه تحدياتٍ قاسيةً من أَجل لبنان، خصوصاً منذ اندلاع ما يسمى “الربيع العربي” الذي خلخل المواقعَ والمواقفَ الجيوسياسية الإِقليمية والعلاقاتِ الفرنسيةَ العربيةَ عموماً.
هذه هي الخارطة العامة للكتاب، قدّم له المؤرخ والباحث التاريخي فيليپ ﭬـالود بِنَصٍّ وَرَدَ فيه: “أَيُّ امتيازٍ خاصّ أَن تكون لبنانياً، في هذا الوطن الذي، إِزاء كلّ حدَث وفي وجه كلّ حَدث، يحاول أَن يحافظ على مجتمعٍ متعدِّدِ الثقافات، متعدِّد الأَديان، مثالاً فريداً وسط صدمة الحضارات”. وبهذا الإيمان بلبنان يختُم: “أُعجوبةٌ دائمةٌ هذا اللبنانُ الفريد، فهل يستمرّ في صُموده أَمام الصدمات التي تنتطر الشرق الأدنى، ويبقى لبنانُ أولَ نموذج للربيع العربي، والنموذجَ الأَوّل للديمقراطية في كلّ العالم العربي”؟
في مقدمة تتصدَّرها عبارة شارل ديغول: “ذهبتُ إلى الشرق المعقّد بأَفكار بسيطة”، أَطلّ الكاتب ابرهيم تابت على قرّائه معلناً أَن لبنان “دائم الانقسام بين ثقافتَين ورؤيتَين متنافرتَين إلى رسالته. غير أَنّ الفرنسية تبقى “لغةً-هُويةً” راسخةً في المساحة اللبنانية رغم انتشار الإنكليزية التي تبقى “لغةً-وسيلة”.
بهذا الوضوح التاريخي التأْريخي، يتدرّج الكتابُ في فُصوله الثلاثة عشرة: منذ زمن الصليبيّين، مروراً بالملكية الفرنسية والشرق الأدنى، فالمنافسة بين القوى حول مسأَلة الشرق، ففرنسا وجبل لبنان حتى 1860، فالحضور الفرنسي في المشرق إِبان الجمهورية الثالثة، فالحرب العالمية الأُولى في الشرق، فالانتداب الفرنسي في لبنان وسوريا، فالحرب العالمية الثانية واستقلال لبنان، فالسياسة الفرنسية في الشرق الأدنى منذ 1945، فلبنان وسوريا منذ الاستقلال حتى 1975، فالحرب في لبنان (1975-1991)، فالجمهورية اللبنانية الثانية مع وثيقة الطائف، وُصوُلاً إلى الوضع الاقتصادي الثقافي الاجتماعي في لبنان والعلاقات الاقتصادية مع فرنسا منذ 2005، وانتهاءً بالانتشار الديموغرافي اللبناني في فرنسا.
كتاب ابرهيم تابت “فرنسا في لبنان والشرق الأَدنى بين القرنين الحادي عشر والحادي والعشرين”، بهذه القراءة التاريخية الدقيقة المبنيّة على وثائقَ من محفوظات التاريخ، مرجعٌ أَكاديميٌّ رصينٌ مؤَكَّدٌ، يرسم عشرة قرون من علاقة فرنسا بلبنان، لكنه أَيضاً يرسم لبنان في التاريخ الوسيط والحديث وطناً أُعجوبيّاً يواجه قَدَرَه الصعب، ومع كلّ مواجهةٍ يُـثْـبِتُ كم هو فعلاً وَطنٌ أُعجوبيٌّ خالد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*