الحلقة 1082: أَوجع ما في غياب الأُمّ
الأربعاء 16 كانون الثاني 2013
قَبْل أَغمضَتْهما، تينَكَ العينَين الأُموميَّتَين، سأَلَتْ عني. قالَت: “أُريدُ أَن أَسأَلَه…”، ولم تُكمِل.
أَغمضَت عينَيها ولم تُكمِل. هرعتُ إِليها. كان سريرُ المستشفى أَسبَقَ مني. حمَلَها إلى الهناك.
غابَت إلى اللارُجوع، ولم تسأَلْ، ولم أَعرفْ عمّا كانت تريد أَن تسأَل.
ولكن… هل الأُم تَسأَل؟ أَليسَت هي الأَجوبة عن جميع الأَسئلة؟ وهل من جوابٍ أَبلغَ من أَن تكونَ الأُمُّ أُماً؟
لـجميع الأَعياد تاريخٌ يعود. يتكرَّر ويعود. إِلاّ عيدُها، ليس يتكرَّر لأَنه يُقيم ولا يَعبر. وليس يعود لأَنه يُقيمُ ولا يُغادِر.
مع أَوّل الربيع عيدُها، لكنها تُمسِك من أَوَّله الربيعَ وتَمدُّه على الأَربعة الفصول ربيعاً دائماً في تَجدُّد الطبيعة، لتشتدَّ الصلةُ بين إِطلالة الربيع (زهْوِ الطبيعة وخصبِها الجليل)، وطلّة الأُمّ (زهْوِ الحياةِ وخصْبِها الجميل).
وإذا الطبيعةُ هبةُ الله إِلى الإنسان، فالأُمُّ هبَةُ الطبيعة من الله. وما أَغلى الهبَتَين تُعْطَيَان على اسم الحُب.
الطبيعةُ حُبّ. والأُم حُبّ. وكلُّ حُبٍّ حقيقيٍّ إلى تَمجيد.
الطبيعةُ أُمٌّ تَلِدُ الربيعَ من أَحشائها وتَهِبُهُ إِلى الإِنسان. والأُمُّ طبيعةٌ تَلِدُ طفلَها من أَحشائها، وتَهِبُهُ إلى الحياة.
الحبُّ الحقيقيُّ يُعطى بدون حدود. كُلُّ شكلٍ آخرَ ليس من الحُبّ. إنه من الوهم البَرَّاني.
يفقد الرجل أَباه، يشعر بالدُّربة انزاحت عن جناحه. يتوغَّل وحده في العُمر بدون تلك الدُّربة.
يفقد الرجل أُمَّه، يشعر بأَنه خرجَ من الطفولة. مع الأُمّ يبقى الرجلُ طفلاً مطمئنّاً. بدون الأُم يصبح رجلاً فاقداً مذاقَ الطفولة، داخلاً في صحراء رجولة بدون ينبوع أمان. فالأمُّ أَمان: وجودُها مَشيمةٌ متواصلة. وعدٌ دائمٌ بطمأْنينةِ أَنّ السُّرَّة ما انقطعَتْ، ولن تنقطع.
قدَر الأُم أَن تَلِد، تعطي العمرَ حياةً، وتَرضى بالتخلّي. سوى أَنه تَــخَـلٍّ مَشروط: أَن يظلَّ الوليدُ على حجم زندَيها، ولو لم تَشأْ. ولو لم يَشَأْ. ولو صار أَباً، ولو جَدّاً صار. أَحفادها صورةٌ عن أَبيهم الذي لم يكبَر عن حجم زندَيها.
قدَر الأُم أَلاَّ تعترفَ بالتخلِّي. وقدَر الابن أَلاّ يعترفَ بالانفصال. وللقَدَرَين هالةٌ واحدة: ما دامَت الأُم هنا، فالأَمانُ هنا. ويوم تَرحل، تأْخذ معها الأَمان إلى هناك.
حضورُها، ولو عن بُعد، مفتوحٌ على جميع الأَجوبة، هي الكلمة التي لا تَطْلَع من اللغة بل من صمتٍ فصيحٍ بلاغَتُهُ في أَنه قَبْل اللغات جميعِها وبَعْد جميع اللغات.الأُم عطاءٌ صامتٌ، أَبلغُ ما فيه أنه يَبلُغُ جميع اللغات.
تغادر الأم حياتَها على هذه الأرض، حافيةَ الانسحاب كصمتِها الحافي. كنجمةٍ تَستقيلُ من شَـــعّ الفَلَك.
ويل لِـمَن تغيب عنه أُمُّه قبل أَن تَـمنحَه الحياةُ نَـجمةً لعُمره لا إلى غياب، باقيةً نُسغَ الحياة.
نجمَةُ العُمر تُهديها الحياةُ مَرَّةً إِحدى لِـمن يَستحقُّ نعمتَها، فَتَمْنَحُهُ طمأْنينة الحُبّ الحقيقيّ الذي يُعادل الحياة: حُباً قوياً، بسيطاً، حقيقياً.
التي غادَرَتْني أَمس، حملَت صمتَها ورحلَت. كانت حياتُها رسالةَ عطاءٍ بلا مِنّة. وكانت مِنَّتي عليها أَن تبقى – ولَو في شيخوخة العمر – حُضوراً صوتُهُ لغةٌ حافية.
قبل أَن تُغمضَ عينَيها إِلى الأَبد، سأَلَتْ عني. قالَت: “أُريد أَن أَسْأَلَه…”، ولم تُكمل. حمَلَت السؤَال وغابَت. لا هي سَتَعود، ولا أَنا عرفتُ السُّؤَال.
أَوجعُ ما في غياب الأُمّ: أَن تُغادِرَنا سُؤالاً لم يَكتمِل، هي التي وَهَبَتْها الحياةُ أَن تَكونَ جواباً مكتمِلاً عن كُلّ سؤال.