كي لا تَــنْــهارَ ذاكرةُ الحضارة
السبت 12 كانون الثاني 2013
-776-
لَفَتَتْني يوماً، وأَنا أَمشي في شوارع ﭘـاريس، بلاطَتان على بنايَتَين في شارعَين متجاوِرَيْن تُشيران إلى أَنّ الكاتب الفرنسي بلزاك سكَنَ في الأُولى ثلاثة أَشهر وفي الأُخرى أَربعة، لكثرة تنقُّلاته بين مسكنٍ وآخَر هارباً من دائنيه الكُثُر.
وفي ﭘـاريس، كما في مدُنٍ وعواصمَ أُوروﭘـيّة كثيرة، بلاطاتٌ تذكارية على أَبنيةٍ سكَنَها يوماً ذوو مكان في فردوس الخلود، ولو لم تكُن “مُدْرَجَةً في لائحة الجَرد” أَو “ذات طابع تاريخي أَو أَثري”. فالبناء الذي سكنه مبدعٌ لا يحتاج لإنقاذه قانونَ حماية الآثار والأَبنية التراثية.
في لبنان، حين البيتُ من فئة الأَبنية التراثية، يـخضعُ لأَحكام نظامٍ قديم رقمه 166 وضعَه المفوَّض السامي دومارتيل في 7 تشرين الثاني 1933 وما زال سارياً منذ 80 سنة. أَما الأَبنيةُ غيرُ التراثية وغيرُ التاريخية القديمة، فحدَّدتْها المادة الأُولى من “اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي” (23/11/1972) بأَنّها “معالِـمُ لها قيمة عالَـميّة استثنائيّة من وُجهة نظر التاريخ أَو الفن أَو العِلْم، يتمُّ تسجيلُها بِـمَرسومٍ من رئيس الدولة يَصدُر بناءً على اقتراح الـمُديرية العامة للآثار، ولا يُـمكنُ هدْمُ البناء الـمُسجَّل من دون تصريح مديرية الآثار التي تُـجْري عليها أَعمال التصليح أَو الصيانة ولو لم تكن مُلْكاً للدولة”.
سنة 1987 تَـمَّ وضْعُ بلاطة تذكارية في أنطلياس على بيت “أُمّ عاصي” لأَنه شهِدَ صِبا الأَخوَين رحباني وشبابَهما وكتابةَ أَعمال كثيرة فيه، واجتماعاتٍ لتحضير تلك الأَعمال قبل تنفيذها. غير أَنّ المالك الذي اشترى البيت، حين أَرادَ هدْمَه لإِنشاء “سنتر” مكانه وقامت حملة ٌكبرى عليه، سأَل الدولة، بكلّ بساطة، أَن تشتري منه البيتَ وتفعلَ به ما تشاء. وحين اعتكَفَت الدولة عن ذلك، أَنشَبَت الجرّافة براثنَها فكانت “البلاطة التذكارية” أَوّل حجر وقَع من البيت تحت جنازير الجرّافة.
أَمام وُضوح التشريع لا فرقَ بين بناء “أَثَريّ” أَو بناء “ذي قيمة خاصة في عالم الفن أَو العلْم أَو الثقافة”. والدولةُ التي تُريد أَن تحفظَ ذاكرةَ الوطن، تتداركُ الأَمر مُسْبَقاً قبل أَن تباشرَ الجرّافات الهدمَ والتدميرَ ومَـحْوَ الذاكرة في العاصمة أَو في مُدنٍ شاهدةٍ على تاريخ البلاد الثقافـيّ والإبداعيّ.
البناءُ “الأَثريّ” أَو “العتيقُ ذو القيمة الثقافية” ليس حصاناً يَهرَم فيُعْدِمُه صاحبُه (نتذكَّر فيلم “إِنهم يُعدِمون الخيول، أَليس كذلك”؟) بل هو شاهدٌ على حِقْبةٍ من الذاكرة باقيةٍ بقاءَ الـمَـعالـم.
والوطن الذي بلا ذاكرة، يسقُطُ من التاريخ ولا تُنْقِذُهُ جُغرافياهُ “الحديثةُ” بـحِقَبٍ “عصريةٍ” من دون تاريخ.