“من حُسْن حَظِّها، بيروت، أَنْ وَجدَت مَن اهتمَّ لها فَرَفَعَها من تحت أَقبية الموت والدَّمار والنسيان في وَسَطها المُهَدَّم ومبانيها المهشَّمة وصروحِها المنكوبة وأَزقّتها المنسيّة الضيّقة، إلى شوارعَ جديدةٍ وجاداتٍ واسعةٍ ومعالِمَ ساطعةٍ للتمَدُّن والعُمران وآفاق الحياة والعمَل”.
بهذه الكلمات الناضحة أَملاً وفرحاً وبَـهجةً لعودة بيروت إلى بيروت، افتتح أيمن تْراوي كتابه الفوتوغرافـيّ “ذاكرة بيروت”، صادراً عن “مؤسسة رفيق الحريري” في 304 صفحات قطعاً مستطيلاً كبيراً، حاملاً 296 صورةً عن بيروت، كلُّ اثنتين منها على صفحتين مُتَقابِلَتَيْن، يُسْراهُـما لناحيةٍ مهشَّمةٍ مُـحروقةٍ مهدومةٍ مدمَّرةٍ مرمَّدة، ويُـمناهُـما للناحية نفسها ارتفعَت جديدةً بهيةً ناصعةً ساطعةً مشْرقةً مرمَّـمَةً مزهوَّة مفتوحةً للشمس والعصافير وفَرَح الناس.
مطلع الكتاب طَلعةُ الرئيس رفيق الحريري مُـمْسِكاً يدَ رفيقة العمر نازك، يَـمشي باسماً أَمام ساعة ساحة النجمة، ذاتَ ليلةٍ من ليالي بيروت الباسمة لعودتها إلى نجمة بيروت تسطع فوقها بحنانِ الحُبّ ناهدةً إلى فجر المستقبل.
وتتوالى بعدها الصفحاتُ طالعةً من كاميرا أَيْـمن تْراوي: هنا يَساراً هياكلُ باطونيةٌ مفجِعةٌ مفجوعةٌ بفوّهات الموت والفراغ عشَّش فيها بُومُ الشؤْم وغربانُ الحرب وعقبانُ الجثث وقمّامو الجيَف، ويميناً قُبالتُها اكتست هذه الهياكل نفسُها جدراناً ملوَّنةً وأَبواباً وشبابيكَ وشرُفاتٍ، وتطربشَت بالقرميد الأحمر، وفتَحت كُوى تدخل منها الشمس وترتاح فيها العصافير.
ومن ساحاتٍ على الصفحة اليُسرى يرتعشُ من خوفِ قُرباها الضباعُ والجرذانُ لِـهشيمٍ فيها أَو غاباتٍ برِّيةٍ “مَرتَعٍ” للأَفاعي والزواحف السامّة، إلى الساحات إِياها على الصفحة اليُمنى يرتعشُ من بهجةٍ زوّارُها عبوراً أَو سياحةً أَو تَسَوُّقاً أَو رَفاهاً في مقهىً ذواقة أَو محلٍّ أَنيق، وبينها جميعاً زوغةُ الأَولاد ركضاً أَو سيراً أَو امتطاءَ درّاجات، في أَيديهم بالوناتُ الطفولة، وفي عيونهم أَشعَّةُ لَـهْوٍ وضحِكاتٌ تُعيدُ إلى بلاط الأَرصفة وقعَ الخطوات التي انتصرَت على فراغ الأَمس الأَسود فامتلأَت بثقة التجوال في العاصمة الزوغى بعودة لبنان إلى ربيع العمر الجميل.
هكذا تتهادى صفحاتُ الكتاب بين أَسْوَد أَمسها وزَهريِّ حاضرها والمستقبل: مع بيروت من الجو، ووَسَط بيروت التجاريّ، وساحةِ النجمة، وأَسواق بيروت، والسراي الكبير، والمرفأ، وبلديةِ بيروت، وشوارعِ المعرض وفوش واللنبي ورفاقها، ومجلسِ النوّاب، وكنائسِ المدينة وقبابِها ومساجدِها وجوامعها والمآذن، وساحةِ الشهداء وأَدغالِـها ثم قيامتِها وجمالِـها، والمحالِّ المستعيدةِ طرازَها العصريّ الذي تَغار منه ﭘـاريس ولندن، ومبنى الأُوﭘّـرا بات صرح “ﭬـيرجِن”، وساحةِ رياض الصلح، وجسرِ فؤاد شهاب، وشارع المصارف، وباب ادريس، والمدينةِ الرياضية من هيروشيما العصر إلى لؤلؤة العصر، ومطار بيروت القسريّ الكآبة استحال مطار رفيق الحريري العصريّ الرحابة، وسواها وسواها من مطارح بيروت ونواحيها وأَحيائها وشوارعِها الـمُزَفَّتة والْمُبَلَّطة وأَبنيتها الـمَشِيقَة وأَرصفتِها الرشِيقَة وأَشجارها الرفيقة وأَزهارها العبيقة، وناسِها وأَهلها وسُكّانها وسيّاحِها وزُوَّارها، والقاصدين إليها من كُلّ لبنان، والعائدين إِليها من كل العالم، مغتربين ومُسْتغربين، جميعُهم جاؤوا، جميعُهم عادوا، جميعُهم فَرِحون بعودة نجمة بيروت إلى السُّطُوع الأَجملِ زهرةَ مانيوليا على صَدر لبنان في لَـحظةٍ مبارَكَةٍ من زمَن الحُبّ الذي وَحدَه القوّةُ حين لبنانُ ذاكرةُ هذا الشرق.
كتاب “ذاكرة بيروت” لأَيْـمَن تْرَاوي تَذكارٌ بَصَريٌّ للعين، ذِهنيٌّ للبال، سَنيٌّ لعصرٍ خرجَ فيه متعافياً لبنانُ من ضِيق الأَمس إلى رَحابَة الـمُستقبل.