السياسةُ في كتاب أَدَبيّ
السبت 5 كانون الثاني 2013
-775-
في كتاب “السنديانات التي يقطعون” روى أندريه مالرو كيف كان حُسَّاده يَشُون به لدى الجنرال ديغول، حتى بلَغَ الحسدُ بأَحدهم أَن سأَل الرئيس: “كيف تضع مالرو إلى يمينكَ في مجلس الوزراء وليس هو رئيس الحكومة؟”، فأَجاب ديغول بثقة وكِبَر: “لا أَضع مالرو إلى يميني بل أَنا أَجلس إلى يساره”.
بهذا الحزْم حَسَمَ حاكمُ فرنسا الكبيرُ أَمرَ وجود أَديبٍ خلاَّق في عهده وزيراً للثقافة ومُقرَّباً من القرار في الحُكْم.
ويحمل إِلينا التاريخ القديم أَخباراً مُماثلة عن تقريب رجال الأَدب والفكر من مركز القرار، يضيفون برؤْياهم رؤْيةً أُخرى تُضيءُ حكمةَ الحاكم ومصلحةَ الشعب ومستقبلَ البلاد. فالأَمبراطور الروماني أَدريان أَغنى قصره برجال الآداب والفنون فأَغنى أَثينا بما جعلها حتى اليوم زهرة المدن القديمة الخالدة (كما روَت مارغريت يورسُنار في رائعتها “مُذكّرات آدريان”). وحكّام إِيطاليا القرن التاسع عشر استعانوا برجال الأَدب والفنون فحافظوا على تراثٍ لهم كان فجرَ النهضة الأُوروﭘـية بعد ليل القرون الوسطى.
ولنا في جولات أَمين الريحاني العربية على الملُوك والرؤساء وتقريبِه إليهم (لا تَقَرُّبه منهم) مثالٌ ساطعٌ على دورٍ حيويٍّ كبيرٍ كان لصاحب “قلب لبنان” لدى أُولئك الحكّام استناروا بأَفكاره ورؤْياه وحتى بوساطته بينهم حين لزمَت الوساطة.
هذه العلاقةُ بين السياسة والأَدب تَـجَعل الحُكْمَ ذا بُعدٍ آخر يخدُم الحكَّام وعهدَهم معاً، دونَ تزلُّفِ بعض الأُدباء في تَقَرُّبهم من الحُكَّام كي يكونوا لسان البلاط، ودون عادة بعض الحُكَّامٍ أَن يقرّبوا منهم مَن يكونون لهم أَبواقاً تُسوِّق خطَطهم ومصالحَهم فيغدو كلامهم “صوتَ سيّدهم” عوض أَن يكون الحاكم صدىً لصوت الأديب.
الأَديبُ الحُرّ، غيرُ المنضوي في التزاماتٍ فئويةٍ وحزبيةٍ وإيديولوجيةٍ، يُغْني الحاكم بتوجُّهاتٍ ساميةٍ وسيعة الآفاق، مستقبليَّتِها، قد لا تكون لحاكمٍ يَسير فترة حكمه كلّها في اتجاه واحد كحصان السباق تُلجَمُ عيناه فلا يرى أَمامه سوى خطّ الميدان الوحيد طوال السباق، وتخفى عن عينيه أَيةُ وَسَاعةٍ أُخرى.
عن ستندال في روايته “الأَحمر والأَسْوَد” أَنّ “السياسة في كتابٍ أَدبـيٍّ أَشبهُ بطلقة الرصاص في أُمسية موسيقية”.
وهذا صحيح دون عكْسه، لأَنّ الاسترشادَ بالأَدب في مزاولة السياسة تصويبٌ أَمينٌ إِلى الهدف الأسمى. فالأَدبُ يهذِّب ذائقةَ المواطنين، وبينَهم الحكام، والاستعانةُ بالآثار الأَدبية رِفْعَةٌ إلى غنى المواطنية، أَفراداً وحُكَّاماً، فكيف الاستعانةُ برجال الأَدب؟
وَرُبَّ كَلمةٍ حُـرَّةً من قلمِ أَديبٍ حُرّ أَو من مَشُورَتِه، تُنير قرارات الحاكم وتَجعَلُهُ ينحو واثقاً إلى تَحسين أَدائه.