ذاك الزمنُ المبارك
السبت 20 تشرين الأول 2012
-765-
أَغوص هذه الأيام على كتابي الجديد عن الياس أبو شبكة (وهذه الـ”أبو” لإرضائه لأنه كان يصرّ عليها “أبو” في ثلاث حالات الإعراب).
وخلال بحثي عن نُصوصٍ له (وما أَكثرَها!!!) في الصُّحُف التي كان يَكتب لها، تسنّى لي أَن أَتصفَّح ملياً، صفحةً صفحةً وعموداً عموداً، صُحُفَ تلك الفترة من الثلاثينات والأربعينات: “المكشوف”، “المعرض”، “العاصفة”، “صوت الأحرار”، “الأديب”، وأَن أَتَـذوّق مناخ تلك الحِقْبة المباركة من أَدبنا اللبناني منشوراً بكل احترام وفخامة على صفحات تلك الصحف والمجلات.
وزادَ من احترام النصوص الأدبية كونُ أصحاب تلك المطبوعات أُدباء أَو عشّاق أدب. فكرم ملحم كرم لم يفصل قلمه الروائي عن تحرير “العاصفة”، وأَلبر أَديب بذَل قلمَه الذوّاقة وازعاً في صفحات “الأديب”، والشيخ فؤاد حبيش جعل مكتب “المكشوف” ملتقى أُدباء ذاك العصر، وميشال زكُّور بدأَ حياته (منذ تَتَلْمُذِه في “الحكمة”) كاتبَ رواياتٍ مسرحيةٍ ومقالاتٍ أَدبية قبل أَن يمتهن الصحافة في مجلته “المعرض” ثم السياسةَ نائباً فوزيراً، فنضحَت من صفحات صحفهم جميعاً آثارٌ أدبيةٌ متفرقةً قبل أن تصلنا منهم مجموعةً في كتُبٍ صدرَت نصوصها الأُولى في تلك المطبوعات.
وكما نصوصُ “أبو” شبكة، شِعريُّها والنثريُّ، تسنّى لي أَن أَتَـمَلّى الكتابةَ الأُولى لقصائدَ في صحافة تلك الحقبة، أَعرفها صادرةً في كتب أَصحابها بتعديلاتٍ تُشير إلى عنايةٍ لهم بالنص، أَو نُضجٍ في التأَنُّق الشعري، أَو حرْص على التجويد يطبع شعراء يعانُون شعرهم فيعاينُونَه دقيقاً ويصقلونه قبل نقْله من المجلة إلى الكتاب.
يضيق الحيِّز هنا عن ذكْر كبار أُدبائنا الروّاد المنشورة نصوصهم في صحافة الثلاثينات والأَربعينات، لكنّ قراءتهم في أَعمدة تلك المطبوعات الأُسبوعية يُعطي فكرةً ساطعةً عن احترام الأَدب حِقْبَتَئِذٍ، وكانت للأَدب فيها صفحاتٌ مستقلّة دائمةٌ وإن تكن المطبوعة سياسية في امتيازها وافتتاحياتها ونهجها العام. وهذا ما لم نعُد نجدُه اليوم في معظم صحافة عصرنا التي تكاد لا تُفسح للأَدب إلا زاويةً متقشِّفة أَو بعضَ صفحةٍ ثقافية تَـملأُها تغطياتٌ عامة أَحداثاً محلية أَو خارجية.
في هذا السياق: أَتوجّه إلى الأَصدقاء أَساتذة الأَدب العربي في جامعاتنا، أَن يُشيروا على طلاّب الماجستر والدكتوراه لديهم باختيار مواضيع أَطاريحهم الجامعية من صفحات تلك المطبوعات، أَو عنها عموماً، حتى يستضيءَ جيلُنا الجديد بتلك الخميرة المباركة من شعراء لبنان وأُدبائه، موزعةً نصوصهم الأُولى على صفحاتٍ نابضةٍ يجب أَلاَّ تغورَ في سكوت النسيان بين أَكداس المجلات العتيقة على رفوف المكتبات العامة.