حرف من كتاب- الحلقة 91
“عَ البركِه”- جوزف أبي ضاهر
الأحـد 18 تشرين الثاني 2012

أَن يتناولَ العاداتِ والتقاليدَ اللبنانيةَ مؤرّخٌ كأَنيس فريحة أَو لحد خاطر، فالنصُّ مباشِرٌ إلى الـمَعلومة أَسماءَ وتواريخَ ووقائع.
وأَن يتناولَها أَديبٌ كمارون عبود أَو كرم البستاني أَو سلام الراسي فالنصُّ مطرَّزٌ بطراوةٍ تُضيف إلى الـمَعلومة لونَ صياغة.
أَما أَن يتناولَها شاعرٌ فارسُ كلمةٍ وتشكيليٌّ خيَّالُ ريشةٍ وإزميل، فالنصُّ عندها نضارةٌ مُشِعّةٌ تَـجعلُ الـمَعلومةَ عروساً، ووقائعَ العاداتِ والتقاليدِ مزهرياتِ تُراثٍ يَـحلو الجلوسُ إليها خبرياتِ أَمسٍ وحكاياتِ حاضرٍ ومِعْجَناً حاضنَ إرثٍ لرغيف المستقبل.
هو هذا ما يضوعُ مع الشاعر الرسام النحات جوزف أبي ضاهر في كتابه الجديد “عَ الـبَـرَكِـه – تقاليد وعادات لبنانية”، الصادرِ قبل أيام عن منشورات جامعتَين: الأُولى لبنانية (الأميركية للعلوم والتكنولوجياAUST)، والأُخرى أَميركية: (جامعة أركنصا)، وهو في 240 صفحةً قطعاً وسطاً، يضمُّ 31 فصلاً مطرَّزَةً، إلى نصوصِها، صُوَراً ووثائقَ من قلب الإرث الشعبيّ اللبناني.
ولا يتأخر جوزف أبي ضاهر عن إعلان هُوية الكتاب: “عَ البركه”… ويأْتي الجوابُ بَرَكةً مضاعفةً مع رغيف خبزٍ على نار الأَيدي تشتهيه العينُ قبل الفم. العابرُ عَبَرَ في الزمن المتحوِّل من صورةٍ تَضُجُّ بالحياة إلى حياةٍ تَضُجُّ بالصُّوَر”.
هكذا يفتتح الكتاب: من أَيدٍ مبارَكَةٍ تهلُّ العجينَ على صاجِ العافية فَيَتَوَهَّجُ بنبْض العُمر المسَقْسِقِ على حافَّة الأَيّام.
من النطفة يبدأ، من الوحام، وتتوالى فصول الكتاب إلى الولادةِ فالعِماد والطهور، فأُغنياتِ السرير والخبريات والعدِّيَّات، فإلى التربيةِ والمدرسة والأَلعاب والتسالي، والبيتِ اللبناني والزراعةِ والماشية والحرير ومونةِ البيت والمأْكولاتِ والأشهُر وأَمثالها، إلى سهرات الشتاء والأَمكنة والرجالِ والطبِّ الشعبي والسفر والتنقلات، إلى اللِياقات والمعتقداتِ والخرافات والتحضير للزواج والخطبة فالزواج عند المسيحيين والمسلمين، إلى الحماة والكنّة وأَزياء الرجال والنساء والفولكلور اللبناني، إلى الأَعياد المسيحية والإسلامية فعاشوراء أو المأتم الحسينيّ، بلوغاً إلى الترَمُّل والغيابِ وحكي الناس.
وينتهي الكتاب بمقدمةٍ في الفصل الأخير: “قنديلٌ في خيمة ناطور” وفيها أَنّ هذا الكتاب “شبابيكُ انفتحَت على أَمسٍ عَـبَـر، بعضه استمرَّ نابضاً في البال، وبعضه الآخر استقرَّ ذكرى متعةٍ، بساطةً في رغد عيش وتسلُّلَ أَوهامٍ غَذَتها أَحلامُ ناسٍ انشغلوا بها حياةً لهم، تَرِثُ وتُوَرِّث… “كان يا ما كان”… كأَنّ الحكاية لا تبدأُ إلاّ بالـ”كان”، ولا تنتهي إِلاّ بها. أَهْيَ صُوَرُ تقاليدَ وعاداتٍ وحسْب؟ كلا. إنها شبابيكُ تنفَتحُ لعيونٍ تَعرف أَن تندهش فتتّسِعَ الحَدَقَةُ وِسْعَ قلبٍ يَروحُ مشدوداً إلى دفْءِ أَمكنةٍ وشُعاعات، إلى عتَباتِ بيوتٍ وقناطرِ طُمَأْنينة، إلى خيرِ أَيدٍ فاضت ينابيعَ غَمَرَتْ مواسمَ أعمار، إلى صلواتٍ تَقي من خوفٍ ومجهول، إلى مـمَرّاتٍ بين الشمس والريح، بين وادٍ وتلّة، بين جيل وجيل، فلا اختصارَ لتَفَتُّح ولا انفلاشَ إلاّ بقَدْرِما أَعطى الزَّمن، وهو مُقتِّرٌ يُـخْفي تَغَيُّراً كبيراً واسعاً بعدَه، وهو أَتى”.
وفي فجر الكتاب إشراقةٌ يبثُّها جوزف أَبي ضاهر معرِّفاً عن كتابه أنه لـ”عاداتٍ لبنانيةٍ وتقاليدَ بعضُها اندثَر وبعضها استمرّ، أُسجِّلُها بأَمانةٍ لتاريخٍ يَبدأُ مع حضور الناس ولا ينتهي بغيابهم. البناءُ العامُّ سيظَلُّ غيرَ مكتمِلٍ لأَنّ الذاكرةَ الشعبيةَ أَوسعُ بكثير. سيأتي بعدنا من يضيف فتَتَوسَّعُ النِّظرة إلى هذا التأْريخ الشعبي وتُعَمِّقُ هذا الـ”ميثاقَ عيشٍ” على تَنَوُّعِهِ الغنيِّ إِرثاً وحضارة”.
إذا كان جوزف أبي ضاهر خَفِرَ البَوحِ بإِضافاتِ كتابه، فَلْيَعْلَمْ أَنه، بلَمسَة ريشتِهِ على الكلمات، وَزَهْوَةِ أَلوانه على الحروف، أَضافَ إلى تقاليدِنا وعاداتِنا نَـفَساً لبنانياً طالعاً من أَرضٍ وعمالقَة، لـمَجْدِ تُــراثِ لبنان.
نَــفَــساً لا يُـحسِنُ نَـحْــتَـهُ إلاّ الشُّــعَــراء.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*