لأنه كان رجلَ دولةٍ من خارج نادي السياسيين وحَكَمَ ليَبني دولةً تُلغي سُلْطة المزرعة والقبائليات والعشائريات والمحسوبيات لا يزال حتى اليوم يُلهم المؤرِّخين والدارسين والمحلِّلين والأَنقياءَ من السياسيين، مثالاً للزاهد في الحُكْمِ وهو فيه رائدٌ طَليعيّ.
هذا هو فؤاد شهاب، الرئيسُ القائدُ الذي جَعَلَ حُكْمَه خطاً سياسياً ضميرياً، ولو شَابَهُ من بعضِ أَتباعه بعضُ شوائب.
آخرُ ما صدَرَ عنه: كتاب “الشِّهابيّةُ… مدرسةُ حَداثةٍ رُؤْيَوِيَّة” لـلمحامي توفيق أنيس كفوري، في طبعةٍ فاخرةٍ من 606 صفحات قَطعاً كبيراً على ورقٍ صقيلٍ بإِخراجٍ أَنيقٍ وطباعةٍ مُـميَّزَةٍ ووثائقَ جديدةٍ وصُوَرٍ نادرةٍ يَصدُر معظمُها للمرة الأُولى، تتميَّز بتعليقاتٍ عليها شاعريةٍ وجدانيةٍ خارجةٍ عن مأْلوف كلام الصُّوَر.
ختامُ الكتاب، غلافاً، إهداءٌ إلى الطبيب أنيس كفوري والد المؤلف الذي كتب عنه أنه “الشهابيُّ الأول الذي عرفْتُ، الحكيمُ الذي انتصرَت حكْمتُه على قواعد الطب، فعالجَت روحه، قبل مِبْضعه، عذاباتِ مرضاه، وتكفَّلت رحمتُه بشفائهم”.
في الكتاب ثلاثة عشر فصلاً، أَوَّلُها “الشهابيةُ هويةٌ وقضية”، ثالثُها: “بصماتُ الشهابية في سجلاّت عمر الوطن”، وفيه عالج المؤلف رؤيةَ شهاب الاقتصادية في المشاريع العامة والشؤون الاجتماعية وقضايا الزراعة والصحة والعمل والإدارة والمال والتربية والقضاء والحريات العامة، ومفهومَ شهاب للوحدة الوطنية اعتدالاً وعدالةً وحريةً وسيادةً واستقلالاً وواجباً لبنانياً، ثم قواعدَ بناء الدولة جيشاً وسياسةً عربيةً ودوليةً واقتصاداً وانتخاباً وقضايا اجتماعية.
وفي فصولٍ لاحقة مَرَّ المؤلِّف على مفهوم القيادة وحقيقتها في لبنان، والاعتدالِ في الحياة اللبنانية إزاء مواجهة العنف والتمايز والفوارق العقائدية والتربوية والحربية، وكيف تعاملَت الشهابيّة مع الواقع اللبناني، والظروفِ الزمنية والعناوين البارزة لخطة العهد الشهابي في مقاربة النظام السياسي اللبناني والميثاق الوطني ووضعيّة رئيس الجمهورية ونهج الشهابيّة والسياسة الخارجية ومبادئ الإصلاح، وانتقل بعدها ليسرُدَ لقاء الكيلومتر 101 في الخيمة على الحدود مع جمال عبد الناصر (25 آذار 1959)، ثم استقالة الرئيس (20 تموز 1960)، والمحاولة الانقلابية (30 كانون الأول 1961)، حتى وفاة الرئيس (25 نيسان 1973) وصدورِ جريدة “العمل” غداةَ الوفاة في افتتاحية عنوانها “ماتَ قبل أَن يُنصفوه”، جاء فيها: “مات فؤاد شهاب قبل أَن يُنصفَه اللبنانيون. مات والجدَل الحادُّ ما زال قائماً حول عهده. لم يكن رئيساً عادياً من صُنْع الظروف بل كان شخصيةً فريدةً فَعَّلَت الظروفَ في عهدٍ يُشكّل صفحةً بارزةً غيرَ عاديةٍ في تاريخ لبنان”.
وغداة الوفاة أَيضاً كتَب الزعيم كمال جنبلاط في جريدة “الأنوار” مقالاً عَنْوَنَهُ “فؤاد شهاب مدرسةٌ وأَخلاق” جاء فيه: “فؤاد شهاب حَدَثٌ في السياسة اللبنانية كان يَصْعُبُ تَصَوُّرُ ظُهورِهِ في بلدٍ كلبنان. لم يكن له حِزبٌ، ولا كان يَعطفُ على أَرباب السياسة أَو يوفِّر فيهم نقداً. ومع أَنه لم يكن يتّصل بالشعب، كان انجذابُ الناس إليه كبيراً جداً، كمَن يَهرُب من درب الطبيعة فيجدُ الطبيعةَ تسعى إليه. فؤاد شهاب خَسِرَهُ الحكْم الذي لم يستحقَّه مُعظمُ أَبنائه ولم يُقدِّروه حَقَّ قَدْره في الحُكْم وخارجَ الحُكْم”.
في مقدّمة كتابه كتب توفيق أنيس كفوري: “استوقَفَنا فؤاد شهاب لأَنه جذَبَ انتباهَنا بصمْته المثمرِ أَكثرَ من طَنينِ الكلمات في مواكبه، وهديرِ التصفيق أَمامه، وأَفواجِ البيلاطُسات وراءَه. رحَلَ من دون أَن يَكتُب كلمة: لا مذكّرات، لا توصيات، لا تشهيرات. لم يَرُدَّ على التجنّيات والتجريحات، فكانت الشّهابية بعدَه نمطَ حياةٍ ونهجَ وُجودٍ وخطّةَ مستقبلٍ، وكانت بكلمة:”فلسفة القيادة اللبنانية”.
فلسفة القيادة؟ لعلَّها عنوان ُكلّ رئيسٍ على لبنان يأْتي من رؤية المستقبل ليعالِـجَ حاضرَ لبنان الفسيفسائيَّ كما يَستحقُّ حاضرَه الجيلُ الآتي من أَبناء لبنان.