حرف من كتاب- الحلقة 71
“لبنان والبحر”- جورجيا مخلوف
الأحـد أوّل تـموز 2012

لِلُبنانَ مع البحر حكاياتٌ عميقة عريقة، هو الْــ كان منذ كان البحر، تآخى شاطئُهُ والموجَ يحملُ إليه إغراءات السفر، ويأخذ منه بعضَ قلْبِه إلى البعيد البعيد. غير أنّ للبحر، وهو يَتَمَدَّدُ على شاطئ لبنان، جمالاتٍ فريدةً بَرَعَتْ في التقاط صُوَرِها جمانة عرب جمهوري، وفي كتابتها نصوصاً فرنسيةً جورجيا مخلوف، أُضمومةً جميلةً ملوّنةً في كتاب “لبنان والبحر” (منشورات “أَلِفْ”- 192 صفحة قطعاً كبيراً سنة 2008).
وإذا قاصدُ اللؤلؤ يبحث عن “عين البحر” دون زَبَدِه ( كما يقول جلال الدين الرومي) فـ”عين البحر” في هذا الكتاب نقيّةُ البحث عن الجمال، في شمسٍ تسْطَعُ نهاراً، تنحني غروباً، ويأتي إلى نومِها الليلُ شَعشَعَةً من أنوار لبنان.
تبدأ رحلة الكتاب من بيروت، من الكورنيش الذي شُهْرتُهُ توازي شُهرة العاصمة، تتلاطم على خصره الأمواج فَتُرَذِّذُ أقدامَ الـمُشاة، وتتراجعُ آخذةً معها أَصداء خَطَواتِهم على الكورنيش: والدٌ يُمسِك يدَ طفلته، مستريحون على كركرة أركيلة، بيّاعو توتٍ وقهوةٍ وعصيرٍ بين رصيف المنارة وكتِف الروشة، يبيعون الكلامَ معسولاً أكثر من سُكَّرهم في القهوة.
نفتحُ صفحاتٍ بعد. نمرُّ على المرفإ العتيق في البترون، على هلال الخليج في طرابلس، على أغصان البلح في أنفة فوق صخور تَـملأُ جيوبَـها كمشاتُ الماء تبقى بعد انحسار الموج، ثمّ تطلّ طرابلس فاتحةً صدرها لاستقبال البحر بين الشطّ والمينا.
ثمّ ها نحن في عالَـم الصيَّادين: على صخور الشطّ واقفين بصنّاراتهم تنتظر نَقْرَةَ السَّمكَة، أو مُيَمِّمينَ في مراكبهم ينتظرون غَلَّةَ الشِّبَاك. ولِلْبَحَّارة مع البحر حكاياتٌ ليليةٌ يُضيءُ عليها قرصُ القمر قنديلاً من الآمال، أَنْ تتكاثرَ الغِلال وتكونَ للعيال موارِدَ رزقٍ حلال. هكذا نُتابع صُوَرَ مراكب الصيَّادين في بيروت وصُوْر والبترون وطرابلس وجبيل، فالشِبَاكُ على المراكب أُغنيَّةُ الياطر يغطس في القعر كي يهدأَ المركب، ويعودُ ليستريحَ بين الحِبال إيذاناً بعودة المركب إلى شط الانتظار.
نفتحُ الكتاب بعد. صُوَرٌ بين جميلةٍ وأجمل: بيوتٌ مشكوكةٌ على أكتاف بيروت، يُطلُّ عليها من بعيدٍ ثلجُ صنين، ترنو إلى صخور وموجٍ وزبدٍ أَبيض كأنّه يتمرَّى في ثلج صنين، وإلى أشجارِ نخيل تُهزهزها الريح ولا تهزُّها. يتثاءب الشاطئ فاتحاً ذراعيه: من هنا بيروت والجيّة وصيدا وصُوْر، ومن هنا عمشيت فالبترون: متنزّهون، سابحون، أطفالٌ يلعبون، سيّاحٌ إلى طاولة المطعم هانئون.
وفي صفحةٍ يفوح منها التاريخ، نُطلُّ من شرفة سيّدة النورية على البحر، هنا البترون، هناك طرابلس، وتمتدّ الـحَكَايا حتّى بيبلوس بمرفئها الدهريّ وصخورها المجعَّدةِ الخُدود تتأمّل في البترون سوراً فينيقياً تتكسّر عليه أمواج اليوم فلا تمحو أصداء الأمس.
وتكون لنا وِقْفَاتٌ في قلعة طرابلس وقلعة صيدا وعند كوخٍ ختيارٍ جارِ الصيّادين في البترون عَشَّشَ فيه العشب والعنكبوت على حافة البحر. وما هي حتى نطلَّ على جون جونيه من خَصْرِه، ثم من فَوق حيثُ سيّدة لبنان تلّةُ صلاةٍ إلى زُهْدِ الشاطئ.
ينتهي الكتاب على مناظرَ نابضةٍ تعكس جمال البحر من شكَّا إلى كفرعبيدا إلى بيروت وصور.
ونختم الصفحة الأخيرة مع صيادين في مركبٍ يُغادرون الشَّطّ، على الصاري علَمُ لبنان، وفي قلوبهم ما في قلب البحر من أصدافٍ ولآلئَ يصطادونها أَسماكاً فتتكاثر الغِلال وتزدادُ البَرَكَة.
كتاب “لبنان والبحر” سِفْرٌ غَنِيٌّ صُوَراً ونُصُوصاً، لا نُغلِقُه حتّى نفتَحَهُ من جديدٍ على حكاياتٍ لا تنتهي، مثلما لا تنتهي أمواجُ البحر على شطّ لبنان: تَـحملُ إليه إِغراءات السَّفَر، وتأخذ منه بعضَ قلبه إلى البعيد البعيد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*