كيف يمكن كتابٌ مِـمّا سوى 96 صفحةً قَطْعاً كبيراً أن يختصر في قلبه سبعَ لغاتٍ حيةٍ وصُوَراً نابضةً بالحياة والجمال؟
سؤال يطالعُ عند تناوُلِ هذا الكتاب “لبنان… ضيعة السماء”، صادراً عن منشورات “لو تدحال” سنة 1999، كتَبَهُ بأسلوبه البسيط الأب منصور لبكي وأَنَّقَه بكاميراه الذكيّة منير نصر، صفحةً بعد صفحةٍ يَنضَح بالجمال اللبناني وُجُوهاً ومناظرَ ومشاهدَ ولوحاتٍ طبيعيةً ساحرة.
بالعربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية والألمانية، يسافر القارئ في هذا الكتاب إلى وهادٍ في لبنان وجبالٍ وحقولٍ وبساتينَ وزَهْر لوزٍ وأَقراصِ ثلْج، حتى لَـهْوَ لَـهْوُ جمالٍ إن كان للجمال من أُلْـهِيَةٍ إِلَـهِيَّة ترقى إلى بهجة العين.
حَول ضيعة “كْفَرْسَـما” سَـما الكتاب إلى ضيعة السَّما، صورةً مصغَّرةً عن لبنان الروح والأرض والإرث الخالد الغنيّ.
مقدِّمة الكتاب للكاتبة جاكلين دو روميلي، أول امرأة تدرِّسُ في الـ”كوليج دو فرانس” وعضو الأكاديميا الفرنسية. كتبَتْ في مستَهَل مقدِّمتِها: “هذا الكتابُ بادرةُ اندهاشٍ ونشيدُ حُب: اندهاشٌ أمام كلّ هذا الجمال في طبيعة لبنان، هذه الضيعة المعَلَّقة على خصر الجبل بين بحر وسماء. إنه وطن الحب الذي لا بداية له ولا انتهاء. لم أَزُرْهُ، لكنني أَحسدُ من يزوره ويرى جماله البهيّ، فيدخلُ إليه بعينين مفتوحتَين وقلْب منسحِر”.
نفتح الكتاب. نقرأ على صفحته الأولى: “… كان يا ما كان… ضيعةٌ لبنانيةٌ صغيرةٌ مُعَشِّشَةٌ في بقْعةٍ تكسوها أَشجارٌ غضةٌ على منحدرِ جبلٍ رائعِ الجمال. ضيعةٌ وُلِدَت في صباحٍ ما، أو مساءٍ ما، غارقٍ في جفن الدهر فلا يعْلَمُ زمانَهُ أَحَد”.
وعند إيقاعِ صورةٍ تُتَرْجِمُ فِلْذةً من نَصّ، يتهادى الكتاب على: موسيقى باقةٍ من قرميد البيوت، وجبلٍ يَتَطَرْبَش بالثلج، ودربٍ تتسلّل حافيةً تحت أَشجارٍ في غابةٍ مَنسيّة، وتلالٍ تتنفَّس منها شعاعاتُ شمسٍ مُغادِرَةٍ آخر النهار، مسترخيةٍ على كرسيّ بَـحْريٍّ في طرف الأُفق، وشلالٍّ منهمكٍ بفيض قلبه السخي من ينبوعٍ شَقَّ قلباً طيِّباً من صخر لبنان، وقناطرَ تَتَلَفّتُ منتظرةً وصولَ أهل البيت من سَفَر المدينة، ودرجٍ عتيقٍ تَـحَتَّتَتْ خاصرته بِلَفْح الريح والمطر، وأَرزةٍ صَبِيّةٍ تُعَيِّدُ أَلْفَها الثاني فوق عُشَيباتٍ بنفسجيةٍ تتهامسُ عن سرّ الأجيال، وأَزهارٍ تتغاوى طَرحةً ناصعةً في عرس اللوز مع تفتيحة الربيع، وجَرَّةٍ تشهَق من صقيع المياه الطافحة إليها من عين الضيعة، وفلاحٍ يصَلّي على تراب أَرضه كي تُنبِتَ أَرضُه خيراً في موسم الغلال، وختيارةٍ تقيس المسافة بين بَسْمَتها وَشَيْبَتِها وفنجان قهوة بين إصبعيها الراجفتين أَمام صينيةٍ تتجاور فيها الرَّكوة وقِطَعُ المعمول من ريحة العيد، وكَهْلَين يسابقان النرد بين “الشش وسه” و”الجهار دو” على قرقرةِ أركيلةٍ تُتابع طعقة البحصة على صدر طاولة الزهر، وقرْصِ القمر يطلُّ من فُتحة قُبَّة الكنيسة قُبَيْل أَن يُعلِنَ الجرسُ بدْء الصلاة في تساعية العيد، داعياً إليها جارتَه المئذنةَ التي انتهَت قبل هُنيهاتٍ من أَذان العشاء، وبينهما قنديل عتيق يحرس الممَرّ إلى أَزقَّة الضيعة فلا تلُفُّها العتمة، وأَبعدَ قليلاً لوحةٌ كلاسيكيةٌ من الحفافي جَلاًّ فوق جَلّ بين شواهقِ الشير وجيوب الوادي، … وصفحاتٌ… صفحات… فيها من النوستالجيا حكايات… ومن جمال لبنان آيات… كتَبَتْها كاميرا منير نصر وَصَوّرَها قلم الأب منصور لبكي سِفْراً جميلاً اختصرَ لبنان ضيعةَ السما بضيعة “كْفَرْسَـما”، كَمَن يختصر الربيعَ بِـــزِرّ وَرْد، ويَصبُّ العطر في حَبَّة قبلة، ويجمَع غلال المواسم بسنْبُلةٍ تعرف من أَين أَتَت، وتعرف أنها ذاهبةٌ إلى مائدة البركة.
نُغْلِقُ كتاب “لبنان… ضيعة السماء”، تبقى لنا منه: فُتْحَةُ وردٍ عن كلّ الربيع، قبلةُ حبّ عن كل الجمال، وسنبلةُ خيرٍ من أَرضِنا تقول إنّ أَرضَنا ينبوعُ خيرٍ لبنانيٌّ لا يكفُّ يوماً عن عطاء.