لأنه، صباح الخميس الماضي، في خاتمة خُطْبَةِ دخوله الأكاديميا الفرنسية، قال: “وفاءً لفرنسا وللبنان، أَحمل إليكم ما أَعطاني الوطَنَان: جُذوري، لغتَيَّ، لُكنتي، قناعاتي وشكوكي، وخصوصاً أَحلامي في التطوُّر والتعايش”،
ولأنه في تلك الخاتمة نفسها قال: “طموحي أَن أُقَوِّض جدار الكُرْه والحقْد بين الغرب والإسلام، وأَن أُساهِمَ في هَدْمِه”،
أَعود إلى حلقةٍ كتبتُها بعد انتخابه عضواً في الأكاديميا الفرنسية وأذعتُها صباح الأحد 3 تموز 2011، فأُعيدُ بثَّها اليوم وفاءً له يقابل وفاءَهُ لِلُبنان.
إلى أمين معلوف، “خالداً” عالَمياً جديداً من لبنان.
_________________________________________________________________
كان ذلك سنة 1993، ووصَلَ الخبرُ الْمُفْرِحُ إلى بيروت: أمين معلوف نال جائزة “غونكور” على روايته “صخرة طانيوس” التي صدرت عامئذٍ عن منشورات “غْراسِّيْه” (پاريس) في 280 صفحة، وتُرجِمَت إلى لغات كثيرة، بينها العربية (وضعها جورج أبي صالح).
اليوم، مع دخول أمين معلوف الأكاديميا الفرنسية خالداً مع الخالدين، مكرَّساً مع المكرَّسين، عالَمياً مع العالميين، نعود إلى أصل هذه الرواية الطالعِ من قلب لبنان.
في ضيعة كْفَرْيَقْدا (الاسم الأصليّ لـ”عين القبو” ضيعة أمين معلوف من قرى المتن الأعلى في لبنان) شيخٌ حاكمٌ تدور حوله شائعةُ أنَّ له علاقةً سريةً مع لَميا (زوجة معاونه جريس) ويقال إنه هو والدُ طفلِها طانيوس.
يدرس طانيوس في مدرسة الإنكليز التي يُهدي مديرُها بندقية إنكليزية إلى رعد ابن الشيخ حاكم القرية، فيتواطأُ رعد مع جريس والد طانيوس على قتل البطريرك لأنه خطب “أسما” إلى ابن اخيه بينما كان طانيوس يريدها زوجة له، فيضطرّ جريس وولده طانيوس للهرب إلى قبرص، خلاصاً من جريمة مزدوجة: قتل البطريرك، واغتياله ببندقية إنكليزية في منطقة يحكمها الفرنسيون.
بعد فترة يقع جريس وولده طانيوس ضحية غشّ بأن الأمير الذي يطاردهما مات، ويمكنهما أن يعودا، فعاد جريس على أن يلحق به ولده طانيوس، لكن كميناً قتله لدى وصوله إلى شاطئ لبنان.
في تلك الفترة كان عاد إلى القرية روكز (كان مساعد الشيخ الحاكم) وتولّى حكم القرية بعد سجْنِه شيخَها. ويذهب مرسَلون إلى طانيوس يقنعونه بالعودة إلى القرية يحكمها مكان روكز الطاغية، فعاد وطلبَت منه السلطات أن يكون هو شيخ القرية وأن يسجن روكز، فيحار طانيوس لأن روكز والدُ أسما حبيبته الكان يريد الزواج منها لكنّ البطريرك زوّجها ابن أخيه. غير أنه ينصاع إلى رغبة القرية فحَكَمها وسَجَن روكز متردداً بين أن يقتله أم لا. وذات صباحٍ فوجئَ باغتيال روكز وحراس سجنه، فغادر القرية ولم يجرؤ على العودة إليها لشعوره بذنب أنه مُسَبِّبُ قتل روكز. وتاه في أحراج الصنوبر المحروقة على تخوم القرية.
ومنذ ذاك اليوم لم يعُد طانيوس إلى قريته. ويقال إنه لم يعُد يكلّم أحداً، بل شوهِدَ يوماً يرتقي صخرةً عاليةً فوق شير عالٍ، جلس عليها طويلاً طويلاً، ثم اختفى اختفاءً غامضاً لم يدرِ أحدٌ متى ولا كيف، فسُمّيَت تلك الصخرة من يومها “صخرة طانيوس”.
يقول أمين معلوف إن أساسَ الرواية حقيقيٌّ يعود إلى قيام أبو كشك معلوف (من عين القبو) باغتيال بطريرك في القرن التاسع عشر ولجوئه إلى قبرص ثم عودته إلى البلاد بِحيلةٍ أوقعهُ فيها أحدُ عملاء الأمير الحاكم يومها. أما باقي التفاصيل من شخصيات وأحداث فمن الخيال الروائي عند أمين معلوف.
رواية “صخرة طانيوس” أَكْسَبَتْ أمين معلوف جائزةَ “غونكور” سنة 1993، ومؤلَّفاتُه الكاملة أكسبَتْهُ قبل أيام دخوله إلى الأكاديميا الفرنسية. وبين هذَين الحدثَين يكتسبُ الأدب اللبناني الفرنكوفوني قمةً جديدةً من قمَمِه الخالدات، تليق بلبنان القمم التي يوصله إليها، لا سياسيّوه، بل أَعلامُهُ المبدعون في كلِّ صقعٍ وفي كلّ لغةٍ من لغات العالم.