في حجْمٍ موسوعيٍّ كبيرٍ من 600 صفحة، يطالعُنا كتابُ المؤرّخ جوزف نعمة “دير القمر – عاصمة لبنان القديم”، سِفْراً غنياً بالنصُوص والوثائق والصُّوَر قديمِها والحديث، عن هذه المدينة التي لها في تاريخِ لبنانَ حضورٌ سياسي وإداري وصحافي وثقافي وفكري وأدبي نَدَرَ أن عَرَفَتْهُ أو تعرفه مدينةٌ في لبنان.
بين مؤلَّفات جوزف نعمة الكثيرة، وبعد غيابِهِ عُنيَ بإصدارها ابنُه العميد أَدونيس نعمة، يتَّخذُ هذا الكتاب مكانةً خاصة لأنه المؤلِّف ابنُ دير القمر وعاشقُها، أَرَّخَها بقلبه مع قلمه، منذ اسمها المشتَقِّ من هلالٍ يعلوه صليبٌ على صخرةٍ حدّ باب كنيسة سيدة التلّة.
جال المؤلِّف على معالم دير القمر الأثرية من جامع فخر الدين المعني الأول إلى سراي فخر الدين الثاني فسراي الأمراء الشهابيين ملحم وأحمد ومحمود ويوسف إلى دارَي شاعِرَي الأمير بشير: نقولا الترك وبطرس كرامه. وبعد تعدادِهِ عائلاتِ دير القمر ومداورةَ دير القمر وبيت الدين وتلازُمَهما بيوتاً وأُسَراً ومعالِـمَ وتاريخاً وإمارات، مـرّ على ديريّين أعلامٍ في طليعتهم: أمين افرام البستاني، خليل تابت رئيس تحرير “المقطّم”، كرم ملحم كرم، نعوم افرام البستاني، داود عمون، بطرس البستاني، كرم البستاني، فؤاد افرام البستاني، ألبر أديب، جورج حيمري، وسرَد الفنّ المعماري اللبناني في دير القمر شرفاتٍ ومندلوناتٍ ونوافذَ ومساكبَ زهر، وذكَرَ أهمية المعارضة في دير القمر منذ كانت عاصمة الشهابيّين فحاضرةَ لبنان على عهد المتصرفية. ومع أن عهد الانتداب استعان بديريّين كبارٍ مثل أوغست باشا أديب نعمه وجرجس صفا نعمه وداود عمون، عارض الديريُّون حبيب باشا السعد وإميل إده وألفرد نقاش وبشارة الخوري، وحتى ابنَ بلدتهم كميل شمعون لأنه لم يُوْلِ دير القمر ما كانوا ينتظرون منه أن يوليها.
وتوقّف المؤلِّف صفحاتٍ غيرَ قليلةٍ، بالنصوص والصور، عند زيارة الكاتب الفرنسي موريس بارِسّ قبيل اندلاع حرب 1914 وما كان لها من تردُّدات. كما توقّف عند نُـهَزِ أهالي دير القمر في الدِّفاع عن لبنان، منها إبّان حوادث 1840 ضد الحكومة المصرية، ومنها سنة 1934 على عهد حبيب باشا السعد. وكان لدير القمر حضورٌ في الميدان العسكري على عهد فخر الدين الثاني الكبير والأمير بشير الشهابي، وعند الثورة على الجيش المصري. ومن دير القمر أول قائد عسكريّ: الحاج كيوان بن عبدالله نعمه الذي بعد مقتل الأمير قرقماز في مغارة شقيف تيرون حمل ولدَيه فخرالدين وأخاه يونس إلى الشيخ أبو صقر الخازن في بلونه كسروان. ولأن المؤلّفَ ابنُ السلك العسكري تمهَّل بسَرْد ديريّين في المهاجر والمؤسسات العسكرية وشهداء الديريين من القوى المسلحة اللبنانية.
ولا يغيب عن المؤلّف أن بلدية دير القمر أقدمُ بلدية في لبنان والشرق تأسَّست سنة 1864. وعشية الحرب العالمية الأولى كانت دير القمر الوسَطَ التجاريّ الأوّل لمنطقة الشوف: أسواقاً وصناعاتٍ وحوانيتَ ومحالَّ حياكة وخياطة ودباغة وصياغة وبيطرة وحدادة وحلويات، وكلَّ ما يجعل للمدينة اكتفاءٌ ذاتي يغني أبناءها عن الذهاب إلى الساحل والتبضُّع.
ومـرّ المؤلف على الأديار والمدارس والمقاهي والملاهي والمسرحيات، وتوقَّف بـِحُزنٍ عند مذبحة دير القمر في أحداث 1860، ليعودَ فيعتزَّ بأبناء دير القمر البارزين: في رئاسة الجمهورية مع كميل شمعون فرئاسة مجلس الوزراء مع أوغست باشا أديب نعمه فمجلس النواب فالمديرين العامين والمحافظين والقائمقامين والعسكريين والقضاة والمحامين والأدباء والشعراء والصحافيين والأطباء والصيادلة ورجال الدين والدبلوماسيين وسواهم من أركان الدولة اللبنانية والمجتمع المدني اللبناني.
كتاب “دير القمر- عاصمة لبنان القديم”، بما فيه من وثائقَ نادرةٍ وصُوَرٍ قديمة، سِفْرٌ ضروريٌّ لذاكرة لبنان عن بلْدةٍ هي في طليعة واحاتِنا التاريخية التي حبّذا لو هكذا ينهضُ إليها أبناؤُها ويؤرِّخون بلداتهم، فيشعُّ لبنان بمدنه وبلداته وقراه كوكبةَ تاريخٍ عريقٍ وأعلامٍ كبارٍ صنَعوا تاريخنا أمس وزرعوا في أرض الغد أملاً كبيراً ببقاءِ لبنانَ طليعةَ المنطقة أعلاماً وإشعاعاً وكبيرَ عطاء.