الحلقة 1037: … بـلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة
الأربعاء 29 شباط 2012
من بداهةِ ما يدرُس التلامذة أنّ المياه “جسمٌ بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة”، ويكبَرون على هذه المعلومة.
غير أنّ ما حصل قبل أيام في مجرى نهر بيروت غيَّر هذه المعلومة، فإذا بالمياه فيه ذاتُ لونٍ وطعمٍ ورائحة: لها لونٌ أحمر، ولها طعمٌ لأنها انخلطت بموادّ أخرى، ولها رائحةٌ فاحت على ضفَّتي مجرى النهر.
الأهالي عاينوا الموضوع على شاشات التلـﭭـزيون، وتابعوه لا كي يعرفوا ماذا جرى – فَهُم اعتادوا ألاّ يعرفوا خواتيم القضايا – بل كي يُـجيبوا أبناءهم لو سأَلوهم عن نهر بيروت الذي أَصبح النهر الأحمر.
عن وسائل الإعلام أنّ الأحمر في النهر صِباغٌ سال من معملٍ أو مصنعٍ أو مَـجرورٍ فاض أو انكسر أو تَـحوَّل فانساق في مَـجرى النهر. وحتى اليوم لم تُلْقِ السلطةُ القبضَ على المجرور كي تُـحاسبَه، ولا على مَـجرى النهر كي تُـحقّق معه، بل شكّلَت لجنةً للتحقيق، واستكشاف حقيقة الأمر، واستقصاء القضية من مصادرها، وتعيين المعمل أو المصنع أو الـمُنشَأة، وتحديد المسؤولية في ما جرى حين جرى السائل الأحمر حيث جرى النهر فــجرى فيه الأحمر الذي أقلقَ المواطنين ولا يزال يقلقهم إلى أن تلتئم لجنة التحقيق، إذا التأَمَت، وتضع تقريرها النهائي – إذا وضعَتْهُ في المستقبل المنظور-، حتى تتحدّدَ المسؤولية وينالَ المسؤول عقابه أو يعطي تفسيره أو يعترف بتقصيره أو إهماله.
أن يكون ذاك الأحمر في النهر صباغاً أو دِباغاً، ليس هذا هو الموضوع.
الموضوع أن يعرف المواطن الذي يدفع ضريبته للدولة، أنّ الدولة ساهرةٌ على أمنه الصحي والاجتماعي والسياسي والبيئي، كي يطمئنَّ إلى أنه مَـحميٌّ من كل خطإٍ أو خطَلٍ أو خلَلٍ يفاجئه في الوطن.
الموضوع أن يعرف المواطن أن كلّ حدثٍ يحصل تنبري له في سرعةٍ لجنةٌ تتحرى في سرعةٍ وتستقصي في سرعةٍ وتضع تقريرها في سرعةٍ للمراجع المختصة التي تحاسب المسؤولين في سرعةٍ وفق نتائج التحقيق.
الموضوع أن يكتشف المواطن أنّ لِـجان التحقيق ليست مقبرة الحدث ومنقذةَ مسبّبيه، وأنّ نتائج التحقيق لا تبقى من جيلٍ إلى جيلٍ ومن قرنٍ إلى قرنٍ كي تَصدر، وعلى أساسها يحاسَبُ المسؤول أو يُحاكمُ فينالُ جزاءه.
الموضوع أن يتأكّد المواطن من سواسية المواطنين جميعاً تحت سقف القانون، وأنْ ليس أحَدٌ مَـحمياً ولا أحدٌ مَـحسوباً ولا أَحَدٌ مُغَطّىً ولا أحدٌ معصوماً ولا أحدٌ خارج المحاسبة أياً يكن موقعُه السياسي واصطفافُه الـ”آذاريّ”، ثمانيةً أو أربعةَ عشَر، ولا أَحدٌ مدعوماً من زعيمٍ أو قائدٍ أو رئيس كتلةٍ أو نائبٍ أو وزيرٍ أو مسؤولٍ أياً كان هذا المسؤول وأياً كانت نسبةُ المخطئ إلى هذا المسؤول.
الموضوع أن يشعر المواطن بوجوده في دولةٍ حازمةٍ حاسمةٍ حاكمةٍ، لا في سلطةٍ عشائرية قبائلية مزرعجية، الحقُّ فيها يضيع، والحساب فيها يميع، والخراب فيها يشيع، فلا حسيب ولا رقيب ولا مُـجيب.
الموضوع ليس تشكيل لجنة تحقيق بل صدورُ نتيجة التحقيق في مهلةٍ لا تتمطى أسابيع وتتلطّى فتضيع.
الموضوع أن يكون للمُواطن في دولته لكلّ سؤالٍ جواب.
بعد حادثة نَـهر بيروت الأحمر يَـجد الـمُواطن، مرةً أُخرى لا أخيرة، أنه في دولته أمام سؤالٍ… ولا جواب.