كالجمالِ غيرِ المحدود، بيروت، لا الحديثُ عنها يتعب، ولا الحبُّ إليها يرتاحُ من بَوَاح.
منذ أنها بيرُوِيْه حوريةُ البحر، وما نَسَج عنها الشعراء والكتّاب والمؤرخون، وهي تتصدّر كلّ فجر من التاريخ، وتتغاوى مدينةً جميلةً، وميثولوجيا جميلة، وعاصمةً جميلةً بأناقة الأربعة العناصر.
والكلام على سِحْرها لا يقتصر على أمسها وحده، ولا على طبيعتها وأُسَرِها ودَوْرها وحسْب، بل تسلَّل إلى صمت الأبواب وسُكون الشبابيك وهمس الشرفات وقيلولة القناطر.
فها هو الإعلاميّ والكاتب مُحمد المشنوق يُخصِّص كتابه “بيروت… قصَّةُ حُبّ” للأبواب والشبابيك والقناطر، وينسج منها جميعاً بوحاً ناطقاً لسِرّ السُّكوت.
ولا يُخفي هيامَه: “منذ طفولتي تضجُّ بي بيروت. أولُ ما قمتُ به بعدما أهداني أبي آلة تصوير: التقاطُ صُوَر الأَحياء والمنازل القديمة وجوانبَ من الشاطئ والكثيرِ من صخرة الروشة التي كنت أَعتبرها رمز بيروت (…). ورحتُ أَنطلقُ في شوارع بيروت، مع الصباح الباكر أو قُبَيل الغروب. ولأنني لستُ شاعراً ولا رساماً، رحتُ بالصورة أكتبُ لبيروت من الوجدان ما كانت عيني تلتقِطُهُ من لحظات المدينة في جمالها، في تاريخها، في فرحتها، فكانت صُوَر الكتاب لبعض الجمال الكامن في المدينة من عَين عاشِقٍ تبحثُ في كلِّ الزوايا، وترصدُ كلَّ الحلا، وتقدِّم للعاشقين بعضَ ما يبحثون عنه كلما اجتاحتْهم هجمةُ التغيير والتحوُّل في الناس والمدينة. وهذه المختارات من الصُّوَر، أُصدرها مع تعليقاتٍ عليها لأفهمَ، كما غيري من العاشقين، معنى التعلُّق، ومعنى الإخلاص، ومعنى الوفاء لبيروت”.
بِهذه المقدمة افتتح محمد المشنوق كتابَه بعد غلافٍ لواجهة منزلٍ جميلٍ من حي السراسقة في الأشرفية، وتتالت فيه أربعٌ وعشرون صورةً مع تعليقاتِها، لِمنازلَ وواجهاتٍ وشبابيكَ وقناطرَ وشرفاتٍ من أحياء وشوارع: بين برج أبي حيدر وشارع سرسق، والصيفي وميناء الحصن والمرفأ وزقاق البلاط وساحة الشهداء وتلّة الخياط ورأْس بيروت وفرن الحايك وكليمانصو وطريق الشام عند المتحف الوطني وشارع المارسِيِّيز وحي الظريف وطلعة جنبلاط وحديقة الصنائع ومنطقة المنارة وحي مار نقولا والروشة والبطركية والمصيطبة وسواها من الأحياء والشوارع.
وتطلُّ من الصُّوَر دهْشاتٌ بيروتيةٌ جميلة: مرةً من واجهةٍ تعتزُّ بقناطرها، مرةً من شرفةٍ مهجورة إلا من عشبِ الزمن المالح، مرةً من قرميدٍ يُظلِّل شُرفةً تتلألأ بزجاجها النابض، مرةً بِطاقةٍ تنتظرُ وصولَ الدوري حاملاً قَشَّه ليبني عشَّه الآمن، مرةً من باب مُقْفَلٍ على ذكرياتٍ بِلَون صَدَئِهِ العتيق، مرةً بنبتةٍ تطاوَلَت حتى عرَّشَت على جبينِ بابٍ وشبّاك، مرةً بِوَرْدٍ يُسَيِّجُ ذَقْنَ بنايةٍ ذاتِ نكهةٍ بيروتية، مرةً بِـ”نَزْل الأدباء” في شارع الجمّيزة، مرةً بِمصباحٍ مُطْفَإٍ ينتظر يداً تَمتدُّ إليه تَهِبُهُ شَرارةَ النور.
كتاب محمد المشنوق “بيروت… قصَّة حُبّ” قُبلةٌ وَفيَّةٌ على جبين بيروت تَجعلنا نُحِبُّ بيروت أكثر، ونُحبُّ فيها ليلَ بيروت وقمَرَ بيروت ونَجمةَ بيروت…، وشَمسَ بيروت التي لا تَغيبُ عنها إلاّ لِتُشْرِقَ عليها بفجرٍ جديدٍ حاملاً أَمَلاً جديداً يَجعلُها القِلادَةَ السحريةَ الأَجمل في عُنْق لبنان.