من الأدباء مَن يكتُبون ليومهم مُسترجعين في الأمس مَلامحَ من عِبَر، ومنهم مَن يكتُبون لِغَدِهِم مستشفّين رؤيا تصلح كلماتُهم فيها ليومهم، وتبقى صالحةً بعده لكل يوم.
إنه حال اللبناني الكبير إدمون رزق كاتباً بقلمٍ من نارٍ أَشعَل بالكلمات مواقفَ جريئةً، حتى إذا بلَغَ مقعدَ النيابة وحقيبةَ الوزارة، حَمَلَ معه ذاكَ القلم، فلم يَلِنْ، ولم يُهادِنْ، ولم يُزَرِّرْ سِتْرتَهُ أمام من استحقوا من كلماته أن يكشفَ عنهم كلّ ستر.
أَمامي كتابُهُ “في سبيل لبنان”: كوكبةُ نصوصٍ صَدَرَتْ في يومها ولا تزال صالحةً لتصدُرَ كلَّ يومٍ حتى اليوم. وهي في معظمِها افتتاحياتٌ، أو مقالاتٌ رئيسةٌ ظهَرَت في صُحف “العمل” و”الجريدة” و”الأَنوار” و”اللواء”، ومَجلات “المستقبل” (كانت تصدر من باريس)، و”الحوادث”، و”النَّهار العربي والدولي”، و”الفُصول”.
ولأنّ الاستشهاد بكلمات إدمون رزق أَبلغُ من أَيِّ تعليق عليها، أَفتحُ الكتاب وأَقرأ.
في 2 تشرين الأول1975 كتَب في “العمل” بعنوان “تظاهُرة الثلاثة ملايين”: “البارحة طافَت أحلامي في أَرجاء بلادي، قمَماً وأوديةً وسُهولاً، فلاحت لي رؤيا: رأَيتُ الناس يَخرجون إلى الشوارع مئاتِ أُلوفٍ، بل ملايين، من كلّ الطوائف والأحزاب والمناطق والطبَقات، وينطلقون في هتاف واحد: نريد الحياة، نريد الحرية، نريد الخلاص، ولْيسقطِ القتلة، ولْيسقطْ تُجّار الموت”. وتَحقَّقت بالفعل تلك الرؤيا بعد ثلاثين سنة بالضبط حين شهدَت ساحة الحرية في بيروت سنة 2005 أوّلَ تظاهرة مليُونية أعلنَت فجر ربيع عربي نشهد اليوم ترَدُّداته منذ أطلقتْه بيروت.
وفي 4 تشرين الأول 1975 كتَب في “العمل” أيضاً بعنوان “التابوت الأبيض”: “بلغَني نبأُ مصرع شابٍ بطلٍ وهو يساعد قوى الأمن على إزالة المتاريس، فتمنيتُ لو انّ الرصاص كلّه، من أية جهةٍ انطلق ومن أيِّ سلاح، يستقرُّ في صدريَ وحدي، ولا يُصيب أحداً سواي بأذى، فلا يُفجَعُ حبيبٌ بِحبيبِه، ولا أُمٌّ بولَدها، ويَسلَمُ الجميعُ، ويبقى لبنان”.
وفي 22 تشرين الثاني 1969 تأتيه دعوة لتقديم التهنئة في القصر الجمهوري إلى رئيس الجمهورية مُحاطاً برئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، فيكتُب افتتاحيّةً لجريدة “الجريدة”: “لن أذهب إلى القصر الجمهوري، لأنني أَخجل من التهنئة في معرض التعزية. فالاستقلال جريحٌ ينْزِف ويكاد يفقِد آخر قطَراته. أَيُّ استقلالٍ والأمرُ الواقعُ يصفَع كرامتَنا؟ أبالدوَل المئة في قلب دُويلَتنا، كلُّ مُخَيَّمٍ دولةٌ ولبنان بين المخيَّمات دويلة، وزعاماتُنا في تيار الغوغاء تُساير وتُمالئُ وتتملَّق وتتزلَّف؟ هل الاستقلالُ بالتنازلات المتلاحقة عن سيادتنا وحقوقنا ومبادئنا والقِيَم؟ أَبِانهزام السلطة واستسلام المسؤولين؟ أَبالنّزوح والهجرة والذُّلّ والتشرُّد والهوان؟ أَبِلبنان يفرغ من أبنائه؟ أيُّ استقلالٍ والعدالةُ بأيدي سماسرة وعُملاء وإدارتُنا مرتَعُ فسادٍ واستغلال، وبلادُنا مُباحةٌ لنِعال الدُّخلاء؟ كلاّ يا فخامة الرئيس لن أذهب إلى التهنئة، لأن ذهابي إليك دينونةٌ لي وثقلٌ ينوءُ به ضميري”.
وفي جريدة “اللواء” يكتُب افتتاحية في 7 حزيران 1993 بعنوان: “أنا مارونِيّ ولا أَشعر بالإحباط”، جاءَ فيها: “مِن أكثر العبارات تداوُلاً بين الناس هذه الأَيام، كلمة إحباط، صفةٌ ملازمةٌ بعضَ المواطنين. أَنا مارونِيٌّ ولا أشكو ولا أَتبجح، لا أَتنصَّل ولا أَتباهى. لستُ مُحْبَطاً، لم أكن ولن أكون يوماً، ولا أَجدُ أن المسيحيين خسِروا شيئاً لم يَخسَرْه المسلمون، وأَنا ضدّ هذا التصنيفِ المتخلِّف، وأَرفضُ هذه المعادلةَ الغبيَّةَ التي ليسَت بِشَيءٍ من المسيحية ولا من الإسلام ولا من الإنسانية”.
كتابُ إدمون رزق “في سبيل لبنان”: ضميرٌ للرؤية والرؤيا، كم نَحتاجُه اليوم كي نَشعُرَ بأنْ بعدُ في لبنان ضمائرُ لَم يدخُل عليها شبحُ الاستسلام ولا لَطَّخَها ذُلُّ الاستزلام.